عدالة بمذاق منتجع.. تحول السجن إلى جناح رئاسي
أحمد عثمان جبريل
❝ الطغيان يبدأ عندما يختفي الفصل بين القانون والسلطة ❞
هانا آرندت
في لحظة تحكم فيها الموازين وتتلاشى فيها حدود القانون، تظهر الحقيقة القاسية بأن العدالة قد تتحول إلى مجرد أداة للسلطة، لا أكثر. كما قالت المفكرة هانا آرندت:
“الطغيان يبدأ عندما يختفي الفصل بين القانون والسلطة.” .. وهذا ما يعيشه السودان اليوم، حين تتحول السجون إلى منتجعات، ويحظى المسؤولون عن القتل والفساد بمعاملة تليق بأصحاب القصور، بينما يظل القضاء رهينًا لتوازناتٍ سياسية تعيد إنتاج النظام القديم تحت ستار جديد.
ففي مشهد كاريكاتوري لا يُرى إلا في دول تسكنها المفارقات، وتستكين فيها العدالة، وتُخدّر فيها أحلام الشعوب، بثّت قناة “الحدث” تقريرًا تقوده الصحافية القديرة لينا يعقوب، أعتقد انه فكرة التقرير من وجهة نظر صحفية مهنية قام على فضح وقائع دقيقة وصورة ساطعة، لطبيعة النظام العدلي في السودان اليوم، والذي صوره على أنه نظام انتقائي، مترنّح، مطواع في يد من يفترض أنهم خلف القضبان، لا فوقها.. لا كما صوره بعض الزملاء الصحافيين أو غيرهم من (البلابسة) قد كشف عن موقع إقامة الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير،
الواقع أن التقرير، الذي بُثّته قناة الحدث بمهنية عالية، يضعنا أمام حقيقة مذهلة تقول : البشير لا يقيم في زنزانة، ولا في مشفى عسكري، بل في ما يمكن وصفه بلا تردد بـ”منتجع ذهبي”، يضم إلى جواره مجموعة من أبرز رموز نظامه: الفريق بكري حسن صالح، والفريق عبد الرحيم محمد حسين، واللواء يوسف عبد الفتاح (رامبو)، واللواء محمد الخنجر الطيب.
سجن من فئة “7 نجوم” .. ذلك المكان، على الأرجح، هو قرية مروي السياحية، وقد تحوّل إلى مصيف آمن، محاط بحراسة عسكرية مشددة، لا يدخل إليه سوى الفاكهة فيما يبدو أنه تقنين صحي لا يليق إلا بنزلاء الـWellness Resorts الأوروبية بينما يتمتع البشير بحيازة هاتف نقال، يحادث به من يشاء وقد قيل إنه يجتمع من خلاله مع (التنظيم المؤتمر الوطني) ويمارس رياضة المشي صباحاً، ثم يقضي يومه في القراءة، الاسترخاء، والجلوس مع الرفاق للتسامر، كأنما هو في باحة منزله، لا في قيد قانوني يُفترض أنه مفروض بأمر شعب وثورة ودستور.
ليس ذلك فحسب، بل يقوم فريق طبي بزيارات منتظمة ثلاث مرات أسبوعياً، في رعاية صحية لا تتوفر لكثير من مرضى السودان الذين تحصدهم حمى الضنك في مشافيهم الحكومية التي سكنها العنكبوت، ولا لمئات السجناء المجهولين القابعين في الزنازين الرديئة.
الخديعة الرسمية .. هذا ما كشفه تقرير(الحدث) الذي يتناقض تماماً مع الرواية التي خرجت بها السلطات، حين أعلنت نقل هؤلاء من سجن كوبر، بدعوى “انعدام المواد الغذائية” و”الظروف الأمنية” بينما الحقيقة التي تتكشف اليوم هي أن الأمن كان مؤمّناً، فقط لمصلحة من كانوا في السلطة يوماً.
وعلى الرغم من توقيعهم على إقرارات بتسليم أنفسهم لاحقاً، والذي كان يمكن ان يتم في سجن مروي بدلا من منتجعها، أو ان تُستأنف محاكماتهم فيها كولاية آمنة تماما، ولكنه لم يُعلن عن موعد عودتهم إلى السجن، وكأن الأمر لا يتجاوز “عطلة مؤقتة” من عناء الزنازين، في بلد ترزح فيه العدالة تحت ركام الحسابات السياسية.
وهذا يعني بكل وضوح، أن ميزان العدالة مائلًا
فالمفارقة القاسية تتجلى حين نعلم أن محاكمات تجري بالفعل في مدن مثل عطبرة، بورتسودان، القضارف، وكسلا، في حق متهمين بانتماء أو تعاون مع قوات الدع*م الس*ريع، بينما يُعفى قادة النظام السابق المتهمون بالقتل، الفساد، الانقلابات، وتقويض الدولة من المثول بحجة “الوضع الأمني”. هكذا تتحوّل العدالة إلى مقصلة انتقائية، تفتك بالبعض، وتداري البعض الآخر، وتغض الطرف عن (الفيلة في الغرفة) ما دامت تملك سطوة أو اسمًا.
الثورة التي اطاحت بالبشير وعصبته هذه، ألم يكن شعارها واضحًا في حناجر الملايين الذين خرجوا في 2019: (حرية، سلام، وعدالة؟) .. فكيف نرضى اليوم أن ينقلب السجن إلى جناح رئاسي؟ وأن يتحول السجين إلى “نزيل فاخر”؟ وأن تُعامل الملفات الجاهزة للمحاكمة كما لو كانت أوراقًا مؤجلة إلى حين تتغير الظروف؟ .
هل نحتاج إلى تذكير أنفسنا بأن هذا هو ذات البشير الذي أسقطته أعظم ثورة في تاريخ السودان الحديث؟ .. فكيف لنا أن نهضم، نحن أبناء الثورة، مشهد رئيسٍ مخلوع يُقيم في منتجع، كأنما عاد إلى بيت الضيافة، يمارس حياته كحاكم لا كمتهم، وينعم بمزايا لا تتوفر حتى لكثير من وزرائه السابقين أو ضحاياه؟!
ما يجري هو رسالة، بكل أسف، رسالة فحواها: “الكيزان لم يغادروا، فقط غيّروا أماكنهم”. إن لم يكن هذا امتدادًا لنظامهم، بثقافته الباطنية، ودهاليز محاباته، فماذا يكون؟
إن القضاء السوداني اليوم أمام لحظة مفصلية، لا تحتمل الحياد.. إما أن يكون في صف الشعب، في صف القانون، في صف العدالة التي لا تنتقي، أو أن يتحول إلى أداة بيد من استطاع شراء الوقت، والنفوذ، والمكان.
بقى أن نقول: أن الثورة لم تكن صرخة غضب فقط، بل كانت وعدًا بمستقبلٍ مختلف.. وحتى يحين ذلك الوعد، سنكتفي بمراقبة القتلة وهم يستجمّون على أنقاض دماء شهدائنا..
إنا لله ياخ.. الله غالب
المصدر: صحيفة التغيير