رشا عوض

رشا عوض
هناك من يطالب بعدم ابداء اي احتجاج على الخطاب العنصري المنحط لعمسيب وامثاله من مجموعة ما يسمى بدولة النهر والبحر بزعم انهم يمثلون ما يدور في عقول وقلوب الشماليين النيليين ، بل ويمدحون اصحاب هذا الخطاب بانهم اكثر جرأة وشجاعة واستقامة لانهم عبروا بصدق عن رأيهم ولم يعتمدوا اسلوب اللولوة والغتغتة!!
وهناك من يلتمس مشروعية لهذا الخطاب استنادا الى خطاب بعض الحركات المسلحة وما تمارسه من ابتزاز وانتهازية!
اترك لكل من يهمه الامر مناقشة الامر، وفيما يلي رأيي الخاص :
اولا: ضرورة التمييز بين الشجاعة والبجاحة!

لا مغالطة في ان هناك تحيزات عنصرية كامنة في ثقافة المجموعات المستعربة المسلمة في شمال ووسط السودان، نتيجتها ازدراء مجموعات سكانية في جنوب وغرب البلاد على اساس عرقي واحيانا يمتزج ازدراء العرق بازدراء الدين كما كان الحال مع جنوب السودان، وهناك ايضا تحيزات جهوية ضد الغرب، انا لست من دعاة مواجهة هذه الحقائق المرة بالانكار والتستر عليها ، الصدق والجرأة والشجاعة تتمثل في الاعتراف بهذه الحقائق، ولكن في سياق انها امراض اجتماعية فتاكة واختلالات فكرية واخلاقية مخجلة تنتقص في المقام الاول من انسانية الشماليين بقدر ما تظلم شركاءهم في الوطن، اما المجاهرة بالعنصرية واستباحة المجال العام بخطابات تؤيد قتل الاخرين واضطهادهم وتدافع عن السياسات التمييزية الظالمة وانكار المظالم مطلقا وعدم الخجل من ترديد سخافات على شاكلة ان الشمال يجب ان يحتكر الحكم وان الدولة دولته والاخرين ضيوف ما عليهم الا الاذعان والتزام الادب ، فهذه ليست جرأة محمودة وشجاعة! هذا انحطاط ووقاحة وبجاحة وسلوك فاحش ، فلا يمكن ان تصف شخصا يتجول بين الناس عاريا بالشجاعة والجرأة!
يجب تعرية جذور العنصرية في مجتمعنا بموضوعية، ويجب ان نضع التدابير السياسية والتنموية والتربوية لمقاومتها وعدم السماح لها بتجريد ضحاياها من حقوق المواطنة المتساوية وسن قوانين تعاقب على الاساءات العنصرية، وكما فعلت كل المجتمعات المتحضرة في العالم نستطيع لو توفرت لنا الاستنارة الفكرية والارادة السياسية ان نجد صيغة عادلة للتعايش السلمي واحترام بعضنا البعض ، في كل مجتمع تكمن بذور للعنصرية والتوحش والكراهية والعنف، وبذور اخرى للعدالة والمساواة والحرية والانسانية المشرقة بالمحبة والتسامح، الشجعان بحق هم من يحرثون تربة الوطن جيدا وينظفونها من البذور الخبيثة ويزرعونها ببذور السلام والحرية والعدالة، هؤلاء هم اصحاب الجرأة الجديرة بالمدح والتمجيد لانهم يصدحون بكل ما هو قبيح في ثقافتنا ومسكوت عنه في الخطاب الرسمي سياسيا واعلاميا ولكن في سياق ادانة القبح والرغبة في هزيمته، اما ما تفعله منابر العنصرية والدعوة لتقسيم الوطن من امثال مجرمي منبر السلام العادل وصحيفة الانتباهة في الماضي القريب والنسخة الاكثر تفاهة حاليا ممثلة في دولة النهر والبحر ، فهو في سياق تجميل القبح وتطبيع الانحطاط والصفاقة ونزع الحياء الذي هو شعبة من شعب الايمان! ولذلك هؤلاء لا يمكن امتداحهم بالصدق والشجاعة والجرأة والادعاء بأنهم يملكون ميزة تفضيلية عن عموم الشماليين ! وكأنما الشمال ينقسم الى فريقين كلاهما عنصري وعنيف واستبدادي والفرق الوحيد بينهما هو في مستوى الجرأة والشجاعة بالافصاح عن حقيقة موقفه وهنا تكون الافضلية للكائنات العمسيبية!
في الشمال خطاب انساني ديمقراطي مستنير يناضل من اجل سودان يسع الجميع ويحفظ كرامتهم ، هذا التيار موجود ومتجذر وله ادبياته وقصائده واغانيه، وله مفكروه ومناضلوه وله شهداؤه كذلك!
هناك تواطؤ على نكران وجود هذا التيار في الشمال ورغبة في وأده تحت غبار الغوغائية الطافحة هذه الايام ، وهنا يكمن التحدي الكبير : هل يقبل كل المنتمين للشمال اثنيا وثقافيا لانفسهم بالوضاعة بمعيار القيم الاخلاقية والانسانية لدرجة التصفيق للطيران عندما يشن غارات تنتج عنها مجازر لمئات المواطنين الابرياء في مليط او الكومة او سوق طرة او نيالا والحديث عن هذه المأساة بتلذذ وعبارات منحطة مثل صانع الكباب العظيم ومشاوي نسور الجو !! هل نقبل ان نكون بهذه الوضاعة والتجرد من الانسانية لدرجة الفرح بجثث النساء والاطفال المتفحمة والاشلاء البشرية المتناثرة؟ يجب ان لا نسمح لهذه الحرب ان تشوه نفوسنا وتجردنا من الانسانية والاخلاق لهذه الدرجة ، كامل الادانة لاي انتهاك ارتكبه الد.عم السريع في الخرطوم او الجزيرة او سنجة نعم، ولكن مع كامل الادانة كذلك لاي انتهاك ارتكبه الجيش في دارفور وكردفان في حق المواطنين الابرياء هناك عبر قصف الطيران للاسواق المكتظة وللمرافق الحيوية وكان اخرها مستشفى في بابنوسة قتل فيه عشرات المرضى ومرافقيهم. جميعنا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا متساوون في حق الحياة بامان وكرامة ودون اقرارنا بهذه المساواة سنظل على الدوام في طاحونة الحرب .

ثانيا: التمييز بين القضية العادلة والمحامين الفاشلين
هناك خلل هيكلي في الدولة السودانية جعلها غير عادلة في كفالة حق التنمية والخدمات لكل اقاليمها مما افرز مظالم اقتصادية، وهناك ” عنف رمزي” كامن في المخيال الشعبي ، والدولة المركزية بدلا من ان تعمل على استئصال هذا العنف الرمزي عبر سياساتها ومؤسساتها ، بكل اسف استثمرت فيه واصبحت راعية له منذ الاستقلال، ولا سيما في ” العهد الغيهب” عهد الانقاذ الذي ترجم هذا العنف الى حرب جهادية في الجنوب وحرب ابادة في دارفور، وفي هذه الحرب شهدنا اعلى تجليات هذا العنف الرمزي في عبارات مخجلة مثل ” صانع الكباب والمشاوي” احتفاء بمآسي وفظائع في حق مواطني دارفور.
ان انكار هذه الحقائق والزعم بأن مصدر المشاكل والتوترات هو دارفور وان التخلص منها بالانفصال سيضمن الاستقرار والرفاهية للشمال والوسط هو محض هروب من مواجهة جوهر الازمة وهو السياسات المعطوبة للدولة المركزية التي حتما ستجعل المتضررين منها يحتجون عليها، صحيح فشلت الحركات المسلحة في التعبير عن قضية دارفور العادلة وتورطت هذه الحركات في ذات السلوك الانتهازي للنخب المركزية وشاركتها في الفساد وعقلية الغنيمة والاستخفاف بحياة المواطنين ، ولكن هذا الفشل لا يصلح مبررا لانكار ان هناك قضية تهميش سياسي واقتصادي ، واستخدام الحركات المسلحة لخطاب الابتزاز بالعنصرية لتحقيق مكاسب شخصية في السلطة والثروة لا ينفي ان هناك عنصرية وعنف رمزي ضد مجموعات سكانية ادى الى عنف مادي ضدها. اما الذين يجعلون من انتهازية وابتزاز الحركات المسلحة مسوغا للمطالبة بفصل دارفور فهم اكذب الكاذبين! لانهم ببساطة هم الذين صنعوا البيئة السياسية الملائمة للانتهازية والابتزاز عبر الانقلاب على الفترة الانتقالية ثم اشعال الحرب ، وجعلوا العنف اساسا للمشروعية السياسية وحيازة اي مكسب في الدولة فما هو المنطق في احتجاجهم على ما تفعله حركتا مناوي وجبريل من انتزاع الوزارات بقوة السلاح ! هذه الحركات المسلحة حاربت في صف الجيش والكيزان في حرب غايتها السلطة والثروة فطبيعي جدا ان لا تفرط في نصيبها من الغنيمة ام ان معاتيه النهر والبحر يطالبون حركتي مناوي وجبريل بالحرب نيابة عنهم ومساعدتهم على طرد الد.عم السريع من شمالهم هذا ، ثم بعد ذلك تذهب هذه الحركات الى دارفور وتواصل حربها مع الد.عم السريع وحلفائه من الحركات الدارفورية وتستمر حربهم هناك فيما بينهم الى ما شاء الله بعيدا عن النهر والبحر !
السؤال الى متى يستمر التفكير في مستقبل السودان حبيسا لهذه العقليات الضيقة المعطوبة التي لا تحسن قراءة التاريخ ولا حتى الحاضر الماثل امامنا؟
المعطيات الموضوعية تقول ان ليس هناك انفصالا سلسا وسهلا سيجعلنا ننعم بالسلام ، فقد انفصل جنوب السودان ولم تتوقف الحروب لا في الشمال ولا في الجنوب، اما بخصوص دارفور فالوضع اكثر تعقيدا ، ما نحتاجه بحق هو المشروع الوطني الديمقراطي الناضج الذي يفصل مصيرنا السياسي عن اوهام العنصريين وفساد الانتهازيين سواء كانوا من الشمال او من دارفور او الشرق، نحتاج لمشروع يوحد المؤمنين بالسودان الديمقراطي التنموي الموحد على اختلاف اقاليمهم واثنياتهم، مخرجنا في اصطفاف سياسي مدني ديمقراطي يتكاتف فيه الشمال والجنوب والوسط ودارفور والشرق للخروج من دوامة العنصرية والعنصرية المضادة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.