زهير عثمان حمد
في مشهد سوداني يتقاطع فيه الخراب مع الآمال المؤجلة، برزت خلال الأيام الماضية ظاهرة لافتة في الأوساط السياسية والإعلامية: الاعتذارات المتتالية عن قبول المناصب الوزارية.
لم تأتِ هذه الاعتذارات من موقع التمنّع عن المسؤولية، بل من حساسية وطنية ترفض أن تكون ديكورًا في مشهد مرتبك، أو واجهة لسلطة أمر واقع تتجرد من التوافق الوطني.
لقد رفض عدد من الكفاءات والأسماء المطروحة الدخول في تشكيلة وزارية يُراد لها أن تمنح غطاءً مدنيًا هشًّا لسلطة عسكرية ظلت تتخبط منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021.
بعضهم أعلنها بصراحة: لا قبول بأي تكليف لا ينبع من إرادة شعبية، ولا مشاركة في سلطة لا تعترف بمجزرة القيادة العامة، أو تتغافل عن جرائم الحرب الجارية الآن في أكثر من إقليم.
ما يستحق التقدير في هذه الاعتذارات، أنها ليست من باب النخبوية أو التردد، بل امتداد طبيعي لنبض الشارع السوداني الذي ما يزال، رغم الإنهاك والدمار، يرفض الحرب، ويُجرّم الانقلابات
ويطالب بالعدالة لدماء الشهداء من تظاهرات ديسمبر وما بعد الانقلاب. هؤلاء المعتذرون ليسوا خارج الإجماع الوطني، بل أقرب إلى روحه الحية، وإلى صوته الحقيقي الذي لا يثق في تسويات فوقية لا تنهي الحرب ولا تؤسس لمستقبل مدني.
ولعل المفارقة الكبرى أن إعادة تشكيل الحكومة عبر لجنة سياسية، ضيّقة التمثيل، جاءت متزامنة مع تنشيط المساعي الإقليمية والدولية عبر “الرباعية” الموسعة، والتي انضمت إليها بريطانيا وقطر في محاولة لتوسيع قاعدة الحل.
هذا التحرك الدبلوماسي يشير إلى رغبة خارجية واضحة في إخراج السودان من محنته، لكنه لا يعوّض غياب الشرعية الشعبية لأي سلطة لا تنبع من الإرادة الوطنية.
نحن أمام لحظة دقيقة؛ الاعتذار فيها ليس تراجعًا، بل تعبير أخلاقي عن الانحياز للناس ولضحايا الحرب والانقلاب.
إن الذين رفضوا الاستوزار، فعلوا ما لم تجرؤ عليه القوى التقليدية: قالوا لا في وجه العبث، ورفضوا أن يكونوا ديكورًا على جدران متهالكة من الشرعية.
ومع أن رئيس الوزراء المكلّف يقيم الآن في قلب الخرطوم المدمّرة، ويحاول إعادة بناء ما يمكن بناؤه، إلا أن تاريخه في المتابعة من الخارج، وارتباطه بمجموعات تكنوقراطية، يجعله في نظر البعض بعيدًا عن نبض الثورة الحقيقية
التي فجّرها الشارع. فالمطلوب ليس كفاءة إدارية فقط، بل التزام أخلاقي وسياسي بروح الثورة، ومحاسبة القتلة، ووقف الحرب.
* في النهاية، الاعتذار لم يكن انسحابًا، بل موقفًا. وكل من اعتذر اليوم، قد يعود غدًا إذا تغيّرت المعادلة، وتحققت الشروط الحقيقية لبناء سلطة انتقالية مدنية تعبّر عن تطلعات شعبنا، لا عن حسابات العسكر أو طموحات الخارج.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة