طوفان «الجزيرة» فى قطر
(الحرة) رامي الأمين
“الطوفان صار عنا”، يقول أحد موظفي قناة الجزيرة في قطر، بعد تغييرات معلنة في مواقع إدارية وتحريرية حساسة، وتغييرات أخرى متوقعة، يتهامس بها صحفيو الجزيرة دون أن تتضح معالمها بعد.
وكانت “حماس” قد اختارت اسم “طوفان الأقصى” عنوانا لهجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023.
وأشعل “طوفان الأقصى” شرارة حرب على غزة امتدت إلى لبنان وإيران واليمن، حتى وصلت الصواريخ الإسرائيلية في التاسع من سبتمبر المنصرم إلى الدوحة ذاتها، حيث يقع مقر قناة الجزيرة.
وانشغلت الدوحة في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، منذ الضربة الإسرائيلية، في قيادة حراك دولي لإدانة الهجمات وتجاوز آثارها.
أما في مقر الجزيرة، وفي مكاتبها الكثيرة حول العالم، فينشغل الصحفيون بسؤال آخر: ماذا يحدث في الجزيرة ذاتها؟
ولماذا يحدث ما يحدث؟
تحدثت “الحرة” مع عدد من موظفي الجزيرة، من مستويات إدارية وتحريرية مختلفة، اشترطوا عدم ذكر أسمائهم ومناصبهم، لحساسية الموضوع.
ذراع قطر الطائلة
منذ انطلاقها في عام 1996، لم تكن الجزيرة مجرد قناة إخبارية، بل مشروعا استراتيجيا طموحا مكّن قطر من تجاوز كل القنوات الدبلوماسية التقليدية، فاخترقت المشهد الإعلامي بقدرتها على استهداف العديد من الأنظمة وفرض الأجندة على الإعلام العربي.
ومنذ تأسيس الجزيرة، انشغل العالم بمواجهات وحروب قادتها تنظيمات إسلامية، امتدت على جغرافيا واسعة، من الفلبين شرقا حتى مالي غربا، ومن الصومال جنوبا حتى الشيشان شمالا.
لكن أبرز فصول هذه المواجهة كانت في أفغانستان، والعراق، وسوريا والأراضي الفلسطينية.
وجدت الجزيرة فرصة فريدة.
انفتحت على هذه التنظيمات الإسلامية. بثت مقابلات حصرية وتسجيلات دعائية لتلك التنظيمات لم يبثها غيرها.
وضعت هذه الاستراتيجية قطر في موقع فريد. دولة تستضيف القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر في الشرق الأوسط لكنها أيضا تتمتع بعلاقات نادرة مع تنظيمات إما صنفها العالم كتنظيمات إرهابية أو تجنب الانخراط معها.
بنت قطر سمعة دولية ونفوذا باستخدام هذه الاستراتيجية المركبة، التي لم تكن لتكون ممكنة دون قناة الجزيرة.
لكن، ماذا حدث بعد 7 أكتوبر، ليغير المعادلة؟
في 23 يونيو، قصفت صواريخ إيرانية الدوحة. وبعد شهرين ونصف الشهر تقريبا، قصفت إسرائيل الدوحة أيضا.
لعبة “طالقوة الناعمة لم تعد بلا ثمن.
مسافة الأمان
يقول أرييل أدموني، الباحث في معهد القدس للاستراتيجية والأمن، إن الجزيرة منذ تأسيسها كانت في “خدمة السياسة الخارجية القطرية”.
لكن، يشير في حديث لـ”الحرة”: “مع الحفاظ على مسافة. مسافة في التعيينات، ومسافة في الأهداف، ومسافة في التقارير”.
لثلاثة عقود، كانت قطر تحتمي بـ”مظلة حرية الصحافة” كذريعة للنأي بنفسها عن الخط التحريري للقناة، والقول إن ما يصدر عن الجزيرة لا تتبناه قطر بالضرورة.
اليوم، تبدو تلك “المسافة” قد سقطت نهائيا مع تعيين الشيخ ناصر بن فيصل آل ثاني، أحد أفراد العائلة الحاكمة والمسؤول الكبير السابق في وزارة الخارجية القطرية، في منصب المدير العام، خلفاً للجزائري مصطفى سواق الذي شغل منصب المدير العام بالنيابة منذ صيف 2023، قبل ان يتم تثبيته في المنصب منذ فترة قصيرة، ولكن إعادة النظر في إدارة الشبكة، عجّل التخلي عن خدماته.
يعلق أدموني: “هذا سيجعل من الصعب على قطر أن تنأى بنفسها”.
المدير العام الجديد شرع في رسم مسار مختلف عبر سلسلة تعيينات تحمل دلالات واضحة.
تم تعيين الاعلامي القطري أحمد اليافعي في منصب المدير التنفيذي للقنوات بعد ان كان مديراً لقناة الجزيرة الاخبارية منذ العام 2018.
كما جرى تعيين الشيخ عبد الله بن حمد بن ثامر آل ثاني، في منصب نائب مدير قناة الجزيرة الإنجليزية.
ورقي الفلسطيني عاصف حميدي، مدير الأخبار السابق في الجزيرة، إلى منصب المدير العام للقناة الاخبارية. بدأ حميدي حياته المهنية في الإذاعة الرسمية للسلطة الفلسطينية، الغريم التقليدي لحماس.
من التغييرات الفورية والمهمة كان تشديد الرقابة على قسم الرأي، الذي كان يُعتبر سابقاً محوراً لانتقادات لاذعة لإسرائيل. ونقلت صحيفة “معاريف” عن مصادر من داخل القناة، أن القسم “سيخضع لرقابة أكثر مباشرة ودقة”، مشيرة إلى أن الآراء على الشبكة “ستُصاغ بعناية أكبر من الآن فصاعداً تحت إشراف دقيق”.
هذا التحول هو أيضاً جزء من رغبة واضحة في تحييد الدور المتطرف لجماعة الإخوان المسلمين ضمن السياسات التحريرية، وهي خطوة ضرورية لتهدئة التوترات الإقليمية واسترضاء واشنطن، كما يشرح أدموني.
تغطية حرب غزة
في الأسبوعين الأخيرين، لم تعد شاشة الجزيرة مخصصة بشكل شبه كامل للأخبار من غزة، وما يتصل بها. ظهرت مواضيع وملفات أخرى.
ظهر أيضا محللون سياسيون قطريون بشكل واضح على شاشة الجزيرة، بعد أن كانت المساحة الأكبر يملؤها محللون مقربون من الإخوان المسلمين أو منساقون إلى خطاب حماسي شعبوي جلب بعض السخرية للجزيرة عندما قال واحد منهم مثلا إن حماس تستغل بنجاح غابات الزيتون في غزة لمواجهة إسرائيل. ورد معلقون بإن الغابة الوحيدة في غزة هي غابة الإسمنت!
بدا لافتاً أيضا أن قناة “العربي”، التي تبث أيضا من قطر، نشرت في 28 سبتمبر الماضي، فيديو من كتائب القسام.
كانت الجزيرة عادة هي التي تقوم بنشر هذا النوع من المحتوى الذي ينتجه الإعلام الحربي التابع لحركة “حماس”.
واشتهر صحفي الجزيرة تامر المسحال، وهو من غزة، بنشر انفرادات من داخل الأنفاق أو بمقابلات وتسجيلات حصرية لمقاتلي حماس.
هذه المرة، لم تبث الجزيرة هذا المقطع نهائيا.
قطر تشعر، في ظل الديناميكية بين تل أبيب وواشنطن، بضرورة مراقبة القناة التي تملكها عن كثب حتى لا تؤدي رسائل القناة إلى الإضرار بأهداف الدولة، يقول أدموني، الخبير الإسرائيلي المختص في الشأن القطري.
هذه نهاية حقبة سمحت لقطر بانتهاج سياسة خارجية جريئة ومستقلة، وبداية مرحلة تتطلب نهجاً أكثر براغماتية وحذراً، حيث أصبحت حماية الدولة هي العنوان الأبرز على شاشة الجزيرة الجديدة، يضيف.
قناة عبرية
يقول أدموني إن الجزيرة تعتزم إطلاق نسخة عبرية من القناة التلفزيونية، تتوجه للجهور الإسرائيلي. وهي معلومة لم تؤكدها الجزيرة.
وأرسلت “الحرة” أسئلة إلى قسم العلاقات العامة في قناة “الجزيرة”، وطلبا لمقابلة مسؤولين في القناة، دون أن تحظى برد.
لكن صحفيين في الجزيرة رجحوا أن تعلن الجزيرة عن مزيد من التغييرات. وقالوا إن الشبكة تعاني من ترهل بدأ يأكلها من الداخل، وإن التغييرات تهدف إلى ضبط الأداء التحريري والتخلص من أقسام من الأقل تأثيرا، وصحفيين من الأقل تأهيلا.
ويلفت أدموني إلى أن الجزيرة ليست ذراع قطر الإعلامية الوحيدة. تمول قطر عددا كبيرا من المبادرات الإعلامية الأصغر حجما. وهذا يتيح لها، نظريا، أن تنوع استراتيجيات التأثير.
المصدر: صحيفة التغيير