طه عبد الرحمن : الفيلسوف الذي أعاد الروح إلى العقل

زهير عثمان حمد
في زمنٍ ساد فيه التقليد واستعمر الفكر العربي مناهج الغرب دون تفكّر، نهض الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن بمشروع فكري يُعد من أجرأ وأعمق المشاريع الفلسفية في العالم الإسلامي المعاصر. رجلٌ جمع بين دُربة الفيلسوف الدقيق، ورهافة العارف الصوفي، وغيرة المؤمن على هوية أمته. لم يكن تكرارًا لما سبق، بل انبعاثًا لجذرٍ طال إغفاله: أن يُفكر المسلم من داخل نسقه، لا من خارجه.
1. الفلسفة الائتمانية: الأخلاق قبل النظرية
يُعرّف طه عبد الرحمن مشروعه الفلسفي بـ”الفلسفة الائتمانية”، التي تنهض على مسؤولية الإنسان تجاه الله والخلق، لا على تفوّق العقل كما في الحداثة الغربية. فهو لا يرى الإنسان مجرد فاعل عقلاني، بل كائن مؤتمَن على المعنى والقيم.
“الائتمان هو أن يُؤخذ الإنسان على عهدٍ من الله؛ إذ جعله خليفة في الأرض، فصار مسؤولًا عن تصرفاته فيها، لا مطلق اليد في استعمال قواه.”
(طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق)
الائتمان، إذن، ليس مجرد خطاب وعظي، بل مفهوم فلسفي عميق يعيد ترتيب العلاقة بين الذات والمعرفة، وبين الفكر والممارسة.
2. نقد الحداثة: بين “الدهرانية” و”التحييد الروحي”
في كتابه الشهير “بؤس الدهرانية”، يفكّك طه عبدالرحمن أُسس الحداثة الغربية التي استبعدت الدين وجعلت الإنسان مرجعًا نهائيًا. وهو يرى أن الدهرانية باعتبارها نزعة إلى فصل الدين عن المجال العملي ليست حيادًا، بل تهميشٌ للبعد الروحي والأخلاقي للوجود.
“الدهرانية ليست مرحلة من التاريخ، بل رؤية للعالم تنفي الغيب وتُقصي القداسة من كل شيء.”
(طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية)
إنه لا يدعو إلى رفض الحداثة جملةً، بل إلى نقدها من داخلنا، وتقديم بديلٍ يُزاوج بين التطور العلمي والمعنى الروحي.
3. معضلة النقل: الاستلاب الفلسفي
يحذّر طه من النقل الأعمى للفلسفات الغربية إلى المجال العربي، ويدعو بدلًا من ذلك إلى “توليد المفاهيم” من داخل اللغة العربية والنسق الإسلامي.
“لا توليد إلا بتأصيل، ولا تأصيل إلا بتفعيل للمعاني الكامنة في الألفاظ التي من تراثنا.”
(طه عبدالرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث)
ولذلك نراه يبدع في توليد مصطلحات جديدة: كـ”التفكر” بدل “التفكير”، و”التحقق” بدل “الحقيقة”، و”الائتمان” بدل “الاستحقاق”، في إعادةٍ لتأصيل اللغة الفلسفية داخل الروح الإسلامية.
4. الفلسفة والروح: التزكية قبل البرهنة
طه عبد الرحمن يُعيد الاعتبار للصلة بين الفلسفة والسلوك، بين التحقيق العقلي والتحقق الروحي. فلا فلسفة عنده بدون تزكية للنفس، ولا حكمة بلا تخلّق.
“الفيلسوف المسلم لا يكتفي بأن يُحسن البرهنة، بل عليه أن يُحسن العمل بها، وأن يُطابق سلوكه منطقه.”
(طه عبدالرحمن، روح الحداثة)
إنه يربط الفلسفة بالتصوف، ليس كخرافة أو اعتزال، بل كترقٍّ في مدارج الوعي والمسؤولية.
5. الخاتمة : فيلسوف بطهورية الفكرة، ونزاهة القلب
طه عبدالرحمن ليس “فيلسوف الإسلام”، بل الفيلسوف الذي يُفكّر إسلامًا. لا يستعير، بل يُنتج. لا يُقلد، بل يُؤصل. وقدَّم واحدًا من أكثر المشاريع أصالة وجرأة في وجه الانبهار المُفرط بالغرب.
“من لم يُسلم فلسفته، فلن يستطيع أن يُفلسف إسلامه.”
(طه عبدالرحمن)
إنه الفيلسوف الذي لم يتكلم باسم الدين ليُهاجم، بل استخدم الفلسفة ليُعيد بناء الدين في وعي العصر.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة