اخبار السودان

ضد اللساتك وضد الذاكرة

إبراهيم برسي

 

رأيتُ في ما يرى النائم، أن عبد الفتاح البرهان زارني.

 

جاءني كما يأتي البلاء:

 

بصمتٍ عسكري، وملامح لا تحمل أي معنى خارج البلاغ رقم واحد،

 

وكان معه فكي جبريل مختبئاً بالخارج، يحمل في جيب جلابيته فارق بارود الطلقة الأولى.

 

كنت في المطبخ حينها، أقف على حافة الصباح،

 

أعدّ قهوتي بهدوء المساكين الذين لم يتيقنوا بعد إن كانت هذه البلاد حيّة أم في غيبوبة.

 

النار وادعة، ورائحة القهوة تتصاعد بخشوع، لكن حضوره كما فعل في الخرائط أفسد التوقيت.

 

فارت القهوة، سالت، تدفقت على نار الموقد كما تتدفق الدماء حين يُقرر الجنرال أن:

 

“المرحلة تتطلب الحسم”.

لم أُمسك بالكنكة،

 

بل أمسكت لساني،

 

ثم أفلتُّه.

 

فانسكب منه سُباب ثقيل:

 

دين العسكر…

 

كنت أقرب إلى صلاة على روح ما تبقّى من هذا الوطن، ولكن دخوله أفسد اللحظة.

 

قال لي، بصوتٍ يشبه نشرة إخبار كاذبة تتخللها خُطب ياسر العطا ومحمد الجزولي:

 

“البلاد لا تنهض بحرق اللساتك”.

 

قلت له وأنا أمسح القهوة من على البلاط:

 

“ولا تنهض بالبندقية يا جنرال الغفلة، وهي مصوّبة إلى القلب”.

 

ابتسم ابتسامة من لا يعرف معنى القلب،

 

ابتسم كما يبتسم القاتل حين يُطلب منه أحد أن يعتذر.

 

وغاب.

 

غيّر فكي جبريل من مكانه تحت الشجرة، لأن شبكة إرسال الهاتف كانت ضعيفة وهو يتحدث ويراقبنا.

 

فجأة، اختفى الاثنان، ولاح شبح سناء حمد ثم تبخّر،

 

لكن الريح التي خلّفها كانت نتنة بما يكفي لإصابة الهواء بالغثيان.

 

تنفست الصعداء،

 

دخلت الريح النتنة رئتي، فأصابتني بالغثيان أيضًا…

 

خرجت أسقي الزرع في الحوش الخلفي، وأُخلص رئتي من الرائحة، فعاد البرهان.

 

كان يمشي كما تمشي الذاكرة حين تفقد الطريق والبوصلة.

 

لم يقل شيئًا في البداية،

 

فقد كانت النبتات أكثر لباقة منه.

 

طثم قال بصوت نَكِرة:

 

“دخان اللساتك يشوّه صورة الدولة.”

 

قلت:

 

“الدولة؟

 

هي التي شوّهت صورة البلاد يا سيدي،

 

ونحن فقط نرفع المرآة”.

 

سكت.

 

ثم سألني:

 

“أين الوطن إذن؟”

 

قلت:

 

“الوطن احترق…

 

حين ظننتم أن اللساتك جريمة، وأن الرصاصة حُكم”.

 

ثم اقترب مني هامسًا كأنما لا يريد للتاريخ أن يسمع

 

وقال بشيء من الحنين:

 

“أنا فقط … كنت أحاول أن أحقق حلم والدي.

 

فقد قال لي ذات يوم:

 

يا ولدي، سيكون لك شأن عظيم في البلد”.

 

نظرت إليه طويلاً.

 

كانت عيناه ترتجفان بحنينٍ مستعار،

 

كما لو أنه يحلم بالحكم ويخافه في آن يحكم.

 

فقلت:

 

لكن الحلم الذي ورثته،

 

صار كابوسًا عامًا لكل من مرّوا تحت خُطاه.

 

كان البرهان، في تلك الزيارة،

 

أشبه بـ تقرير أمني فقد صفحته الأولى،

 

لا يعرف لماذا أتى، ولا كيف يخرج.

 

قلت له، وأنا أروي جذور الشجر:

 

“الذين أشعلوا الإطارات،

 

لم يريدوا أن يحرقوا البلاد،

 

بل أرادوا أن يُنيروا ما أطفأته البنادق”.

 

توقف، نظر إلى الماء يسيل على التراب، ثم قال بصوت متردد:

 

“لكننا خرجنا ببلادنا من الظلام”.

 

ضحكت،

 

لا على النكتة،

 

بل على الرجل الذي ظن أن الرصاصة ضوء،

 

وأن من أشعل شمعةً على الأسفلت،

 

هو السبب في هذا الظلام

 

اختفى، لكنني وجدت أثر حذائه العسكري على البلاط.

 

لم يكن وحلاً،

 

بل كان شيئًا أثقل:

 

بصمة من ركام،

 

أو بقايا خيانةٍ عابرة.

 

غسلت الأرض،

 

أعدت غلي القهوة،

 

وتأكدت أن الوطن رغم كل شيء لا يزال يعرف الفرق

 

بين دخان اللساتك،

 

ودخان البندقية.

 

لكن البرهان لا يعرف.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *