عمر الدقير
من نكد الدنيا على السودانيين ألّا يجدوا بُدّاً من أن يفزعوا بآمالهم في الخلاص من كارثة الحرب إلى أطراف خارجية حيث الاجتماع المزمع عقده في العاصمة الأميركية واشنطن “حتى الآن لا يوجد تأكيد رسمي على انعقاده اليوم كما أعلن سابقاً” بعد أن استعصى عليهم تدبير أمر الخلاص بأنفسهم، في “بسطام”، نتيجةً لطغيان أصوات البنادق على صوت العقل.
لقد ظللنا ولا زلنا ندعو إلى دور خارجي إيجابي، يُسهم في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ويُساند في التصدي للكارثة الإنسانية، ويُسهِّل انطلاق عملية سياسية يملكها ويقودها السودانيون.. وانطلاقاً من هذا الموقف، نأمل أن يفضي اجتماع واشنطن المرتقب إلى خطوة جادة في اتجاه دفع الطرفين للتوقيع على إيقاف إطلاق النار مع تحديد آليات مراقبة فعالة، بما يفضي إلى تحرك فوري تجاه الكارثة الإنسانية وتدابير حماية المدنيين وتيسير انطلاق العملية السياسية.
لكن، تبقى الحقيقة الموجعة أن اجتماعاً يُعقَد حول السودان بلا حضور سوداني، هو إشارة إلى حالة الانكشاف وغياب الإرادة الوطنية الموحّدة أكثر من كونه بارقة أمل، ما يجعل التنبيه واجباً إلى خطورة اختزال الحل في الخارج، وتَحَوُّل السودانيين إلى متفرجين على ما يُقرّر لهم نيابةً عنهم.
هذا الانكشاف الوطني هو حصاد عجز داخلي، وتحديداً عجز الحركة السياسية عن تجاوز خلافاتها المزمنة على خلفية حسابات ضيقة وتقديم الثانوي على الجوهري وفقدان القدرة على قبول الآخر المُختلِف، وقد تفاقم هذا العجز في ظل الشطط في المواقف وتصاعد الخطاب الإقصائي وتَقزُّم الطموحات الوطنية أمام نزعات ذاتية وحزبية صغيرة، بينما الأشياء في الوطن تتداعى تحت وطأة الحرب.. ومع ذلك، لا يصح التعميم؛ فقد ظلّ هناك من تمسّك بموقف مبدئي رافض للحرب، وداعٍ إلى حل سياسي سلمي يستند إلى الإرادة الوطنية، في مقابل خطاب حربي يُروِّج لوهم الحسم العسكري، غير مكترث بالكلفة الفادحة التي يدفعها السودانيون كل يوم. هذا الخطاب، الذي أثبت الواقع زيفه، لا يكفي فقط أن يُدان، بل يجب مواجهته وهزيمته بمنطق وطني راشد يُعبِّر عن الأغلبية الساحقة التي تنشد خلاصاً من ويلات الحرب وعن أصحاب المصلحة الذين ينشدون معادلة تعايش تُبنى على العدالة وصون الحقوق وتسوية التناقضات بالتوافق لا القهر، ويعمل على توحيد صوتهم في حضور مدني لا يمكن تجاهله بواسطة أية جهة، داخلية كانت أم خارجية.
في الذاكرة الوطنية درسٌ لا يُنسى: التقسيم الذي وقع حين قرر الجنوبيون تأسيس دولتهم المستقلة عن السودان الموحد.. صحيح أن نظام الإنقاذ يتحمّل المسؤولية المباشرة في ذلك بسياساته الخرقاء، خصوصاً في إدارة واقع التنوع، لكن ما حدث يعتبر، في نهاية الأمر، فشلاً جماعياً للحركة الوطنية.
واليوم، وبينما تتكرّر الحيثيات ذاتها ويُعاد إنتاج الديناميكيات نفسها، يلوح خطر التقسيم من جديد؛ ليس لأن الخارج أو بعضه يدفع في هذا الاتجاه، بل لأن الداخل لم يُحسِن التعلم من الدرس ولا التعامل مع ما بعده بما يستحقه من وعي ومسؤولية.
لقد طال أمد الحرب وتكاد البلاد أن تفقد ما تبقى من طاقتها على الاحتمال. ولذا، فالأولوية التي لا تحتمل تأجيلاً هي إيقاف الحرب فوراً، وإنهاء دوامة العنف التي تفتك بالوطن وتُهدِّد وجوده، واعتماد مسار سياسي سلمي لعبور نفق الأزمة المظلم إلى أفقٍ مُضاء.
ما جرى، ويجري، في العواصم الإقليمية والدولية في غياب السودانيين هو نتيجة، لا سبب.. والنتيجة هذه تقول شيئاً واحداً: إما أن نمسك بزمام المبادرة ونمضي إلى صناعة السلام برؤية وطنية جماعية ويكون دور الخارج سنداً لا بديلاً، أو سيستمر الخارج في ملء الفراغ بشروطه لا بتوافقنا.
إنها دعوة مفتوحة لجميع الفرقاء السودانيين، مدنيين وعسكريين:
هذه اللحظة تتطلب الكفّ عن الشرب من نهر الجنون والإرتواء بالعقلانية، وتستدعي أعلى مراتب الشجاعة؛ شجاعة قهر سخائم النفوس لصالح الوطن، شجاعة التنازلات المُتبادَلة المُفضية للتوافق على أُسُس بناء وطني جديد يسع الجميع بلا تمييز متجاوزاً خطايا الماضي وخيباته وظلاماته، والاعتراف بأن الأوطان خصوصاً ذات التنوع العميق في الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي لا تُبنى بالتنازع بل بالتلاقي، ولا تنجو بمنطق الغلبة بل بالوعي والتوافق.
٢٩ يوليو ٢٠٢٥
المصدر: صحيفة التغيير