صوت من لا يسمع.. من يعلم الصم في غزة كيف يستشعرون أصوات القصف؟
-
- Author, مروة جمال
- Role, بي بي سي القاهرة
يمضي فضل كراز معلم لغة الإشارة من مكان لآخر حسبما يقدر في قطاع غزة المدمر، محاولاً الوصول إلى من يعرفهم من ذوي الإعاقة السمعية. يصل فضل إلى خيمة إيمان شلح أو أم محمد، التي تحكي لنا عن أبنائها الصم أيضاً، بلغة إشارة يترجمها لنا فضل: “أخاف عليهم كثيراً… لو هناك قصف قريب لا يسمعونه وبالتالي من الممكن أن يتعرضوا للأذى”.
بهذه الكلمات البسيطة والموجعة اختزلت إيمان شلح مأساة 20 ألف شخص من فاقدي السمع في قطاع غزة بحسب منظمة الصحة العالمية. بالنسبة لهؤلاء، الخطر لا يُسمع مقدما، بل يظهر فجأة، تاركاً إياهم الفئة الأكثر هشاشة وعرضة للأذى.
مأساة إيمان ليست فقط في أنها فاقدة للسمع، ولا تستطيع سمع أصوات القصف والانفجارات لحماية نفسها وأبنائها منه، بل في أنها فقدت زوجها المعيل الوحيد للعائلة في هذه الحرب، وفقدت معه ابنتها، لتجد نفسها وحيدة في خيمة نزوح في مدينة غزة، مع ثلاثة أطفال، اثنان منهم فاقدان للسمع مثلها.
تواصل إيمان وصف معاناتها اليومية قائلة: “ما نعيشه في الحرب صعب صعب جدًا، أحاول أن أصرخ على أبنائي إذا رأيتهم يحاولون مغادرة الخيمة، لكن الصرخة لا تخرج مني لأنني لا أتحدث، ولا تصل لهم لأنهم لا يسمعون، هذا الخوف الدائم يجبرني على إبقائهم سجناء في مساحتهم الضيقة داخل الخيمة، خوفًا من عالم خارجي لا يستطيعون فك شفرة مخاطره الصوتية، دائما ما أسأل نفسي: إذا تركتهم يخرجون، وكان هناك قصف لا نسمع صوته، ماذا سيحدث لهم؟
أذن من لا يسمع
من رحم هذه المعاناة ولد دور فضل الذي يعمل في مجال تعليم لغة الإشارة في عدة جمعيات خيرية في قطاع غزة منذ 33 عاماً، ومع اندلاع الحرب، تطوع لمساعدة هذه الفئة بالمجان، ولم يتردد لحظة في تقديم خدماته.
تخطى الأكثر قراءة وواصل القراءة
الأكثر قراءة
الأكثر قراءة نهاية
يقول فضل: “عملي الطويل في مجال لغة الإشارة خلق علاقة وطيدة بيني وبين الصم والبكم، وأصبحت ارتاد مخيمات النزوح، وأقوم بزيارات لهم، كي أعلمهم بعض النصائح والتعليمات المنقذة للحياة، مثل كيفية تمييز وقت القصف من حركات المحيطين”.
ويضيف: “الاستجابة المثلى التي يجب أن يفعلوها في هذا الوقت للنجاة والحفاظ على حياتهم، كذلك بادرت بفكرة تعليم الأشخاص المحيطين بالصم والبكم في مخيمات النزوح أساسيات لغة الإشارة، كي يكونوا قادرين على التواصل معهم وإنقاذهم وقت الحاجة”.
ويضيف فضل: “من بين من أعرفهم جيداً أم محمد وأبنائها، بدأت معرفتي بها حينما رأيتها ترتاد إحدى الجمعيات التي أعمل بها طلبا للمساعدة، فرق قلبي لحالها، خاصة بعدما خسرت معيلها الوحيد، فهذا هو أكثر وقت تحتاج فيه لمن يمد لها ولصغارها يد العون”.
يدرك فضل أن التحديات التي نتجت عن الحرب تتجاوز خطر القصف المباشر، فهي تمس أبسط تفاصيل الحياة، ويروي لنا موقفًا يكشف مدى عمق الأزمة: “في إطار مبادرتي لزيارة النازحين من الصم والبكم، وتقديم يد العون لهم، عندما كنت أزور أم محمد و أبنائها يوماً في خيمتهم داخل إحدى المدارس التي تحولت لدار إيواء، كانت درجات الحرارة مرتفعة للغاية، فطلبت منها شربة ماء، فصدمتني بقولها إنه لا يوجد لديها ولا لدى صغارها قطرة ماء”.
عندما سألتها عن السبب أخبرتني أن السيارة المخصصة لنقل وتوزيع المياه حينما تصل للمخيم، يقوم سائقها بالضغط على بوقها أكثر من مرة لتنبيه النازحين، فيتزاحمون بدورهم للحصول على المياه، أما أنا فلا أسمع صوت البوق، وبالتالي دائما ما يفوتني نصيبي من مياه الشرب”، وفق فضل.
تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة
يستحق الانتباه نهاية
يضيف مدرب الإشارة: “هذا الوضع كان يجعل أم محمد مضطرة للذهاب لخيام جيرانها النازحين، وسؤالهم بعض الماء، ما أثر في بشكل عميق، وجعلني أفكر في إيجاد طريقة لمساعدتها، ومن هنا جاءت مبادرتي بتعليم جيران الصم والبكم أساسيات لغة الإشارة، كي يتواصلوا مع أم محمد وينبهونها بقدوم صهريج المياه لتأخذ حصتها منها، كذلك أحرص على الحضور بنفسي أحيانا لأعبئ لها ما تحتاجه من مياه، لكنني لا أقوى على فعل هذا دائما، فكان الحل الأمثل هو إيجاد لغة تواصل بينها وبين الآخرين.”
من هنا، بات دور فضل كراز لا يقتصرعلى التواصل، بل يمتد لتعليم استراتيجيات البقاء، يقول عنه الطفل محمد شلح البالغ من العمر 12 عاما بوعي يفوق عمره: “الأستاذ فضل علمني الكثير، علمني عندما أشاهد الناس تجري وقت القصف ألا أخرج إلى الشارع، وأظل في مكاني حتى يكون المكان آمنًا لأنني لا أسمع، أنا لا أستطيع تخيل مصيري أنا وأمي وأختي في هذه الحرب إن لم يكن الأستاذ فضل موجودا”.
ورغم إدراكه للخطر المحيط، يصر فضل على مواصلة الطريق الذي اختاره لنفسه، كمتطوع لغة إشارة في هذه الحرب، يقول عن اختياره: “أحيانًا وأنا في الطريق لزيارة أسرة نازح من الصم والبكم، تراودني أفكار مثل: ماذا لو حدث قصف هنا أو هناك؟ بالتأكيد أشعر بالخوف”.
“لكن ثمة شعور آخر يزاحم الخوف بداخلي، شعور بالرغبة الحقيقية في تنفيذ هذه المبادرة، في إنقاذ هؤلاء البشر، وإن كان على تعريض حياتي للخطر أن ذهبت لمكان ما، فالخطر في قطاع غزة كله”، بحسب فضل.
“أطفالنا للصم”: يد تساعد من تحت الركام
هذا الصمود الفردي لفضل كراز تدعمه جهود مؤسسية، تكاد تكون الوحيدة الصامدة في غزة، “جمعية أطفالنا للصم” التي لم تكن مجرد جمعية من جمعيات المجتمع المدني، بل كانت شريان حياة لهذه الفئة، فهي الوحيدة التي ما زالت تقدم خدماتها لفاقدي السمع في قطاع غزة، رغم تعرض مقرها للقصف.
يؤكد مدير الجمعية فادي عابد ل بي بي سي، أن الجمعية واجهت نفس مصير الكثيرين: “مقرنا، حاله كحال باقي المؤسسات، تعرض لضرر بالغ جدًا أدى إلى توقف الخدمات”.
لكن الإرادة كانت أقوى من الدمار، حيث يضيف عابد: “نظرًا للحاجة الكبيرة، تمكنت جمعية “أطفالنا للصم” من إيجاد مكان جديد لاستمرار عملها وعدم توقف الخدمات الأساسية، هذا الإصرار على البقاء لم يكن مجرد رد فعل، بل كان فلسفة عمل في وجه حرب طويلة المدى، ولا نعلم متى ستضع أوزارها، وإصرار الناس على البقاء والعودة للروتين اليومي، كان دافعاً أساسياً لنا، رغم اقتراب الحرب من عامها الثاني.”
أمام واقع المدارس المدمرة ومراكز الإيواء المكتظة، ابتكرت الجمعية حلولاً من رحم الأزمة كما يقول مديرها: “البديل كان إيجاد نقاط تعليمية أو صفوف دراسية في الخيام لتعليم الصم والبكم، والأمر الأكثر إلهامًا، هو أن من قام بتجهيز هذه الفصول، هم الأشخاص ذوو الإعاقة أنفسهم”.
وتابع: “بعد أن فقدوا فرص عملهم بسبب الحرب، قمنا بإعادة استيعابهم وتأهيل الورش اللازمة لهم، هم من قاموا بتصنيع الأثاث والطاولات والكراسي للطلاب، ليكونوا نموذجًا وقصة صمود يحتذى بها، وهؤلاء الطلاب كانوا قبل الحرب من المترددين على الجمعية، وممن حصلوا بداخل أروقتها على العديد من الأنشطة التعليمية التي مكنتهم من أداء مهمتهم في الحرب بنجاح”.
خلف هذه القصص الإنسانية، يسلط فادي عابد الضوء على أرقام وصفها بالصادمة، حسب مسوحات ميدانية قامت بها الجمعية، تكشف عن أزمة صحية متفاقمة يعانيها فاقدو السمع في قطاع غزة، فبحسب الجمعية، هناك35 ألف شخص في غزة، بينهم أطفال وبالغون، يعانون من فقدان السمع بشكل مؤقت أو دائم نتيجة الانفجارات المتواصلة، والتلوث البيئي، وغياب الرعاية الطبية اللازمة.
كما تضاعف معدل الإصابات بمشاكل السمع ثلاث مرات بحسب جمعية “أطفالنا للصم” عما كان عليه قبل الحرب، إضافة إلى ارتفاع ملحوظ في مشاكل السمع لدى الأطفال حديثي الولادة الذين وُلدوا أثناء الحرب، ما يتطلب تدخلات عاجلة.
كما تشير مسوحات الجمعية بحسب مديرها فادي عابد، إلى أن 83% من ذوي الإعاقة السمعية فقدوا أدواتهم المساعدة، كالسماعات الطبية، نتيجة النزوح المتكرر وعدم وجود صيانة أو قطع غيار، ويزيد الطين بلة، بحسب عابد، منع إسرائيل لدخول أدوات مساعدة جديدة إلى القطاع، رغم الحاجة الماسة لها.
تتشابك خيوط هذه القصة لترسم لوحة واقعية لواقع الصامتين في الحرب التي يشهدها قطاع غزة، الأم إيمان التي تحاول أن تكون درعاً حامياً لأطفالها، والطفل محمد الذي يواجه الخطر بوعي بصري نافذ، ومدرب لغة الإشارة فضل الذي يمد جسور التواصل بيديه لكل من يحتاجه، وفادي الذي يقود مؤسسة تحاول إعادة بناء الحياة من تحت أنقاض الحرب، جميعهم بدوره ومن موقعه يروي فصلاً مختلفاً من فصول الحرب، وشهادات حية.
المصدر: صحيفة الراكوبة