اخبار السودان

صندوق باندورا السوداني

أطراف الاقتتال وأنصاره في السودان يجفلون من الحقيقة الوحيدة الشاخصة من تحت ركام الحرب ورمادها، فلا أحد يتكهن بموعد نهاية هذه الحرب الآثمة، ومَن الخارج منها منتصراً. لكن الجميع يدركون أن الشعب هو الخاسر الأكبر، مثلما يُجمعون على تصاعد كلفة فاتورة الحرب كلما اتّسع مداها في الزمان والمكان. الحقيقة المغيّبة عمداً عن رؤى أنصار معسكري الحرب خروجهما عن قبول الجماهير بعودة أيٍّ منهما أو هما معاً إلى سدة السلطة. قناعاتهما غير المعلنة بهذه الحقيقة، لا غيرها، تؤجل نهاية الحرب عبر تسوية سلمية، فوقف النار رهين بارتضاء طرفي الحرب مصيراً عسيراً جوهره خسارةٌ فادحة. استطالة زمن الحرب وتوسيع رقعتها يهدف إلى تخفيف وقع تلك الخسارة من خلال استنزاف قوة الشعب، بحيث يصبح أدنى إلى القبول بالمساومة أو أبعد عن الرفض والمحاسبة. لكن من المستحيل على الشارع السياسي إغفال إخفاق الجيش في حماية الدولة والعائلات، وتعريض الشعب لحملات التهجير والتجويع والترهيب.

***

… بغضّ النظر عن أثقال كفة كل جانب في ميزان الجرائم، فالخطيئة المشتركة الكبرى تتجسّد في التواطؤ على اقتراف انقلاب 25 أكتوبر (2021)، فهو صندوق باندورا. إذ أطلق كل الشرور الراهنة، فمن عند ذلك المنحنى هبط السودانيون من فردوس الحلم السلمي الديمقراطي إلى جحيم الاحتراب الإثني الجهوي. أضاع ذلك الانقلاب الأحمق من بين أيديهم مفتاح بوابة حداثية لنهضة تاريخية صمّمت الجماهير نسقها العام بالبذل، بالدم والصبر. صحيحٌ أن الشعب لم يكن قبل الانقلاب الخسيء داخل إطار وحدة التجانس الشامل في الغايات والآليات، لكنه كان متماسكاً داخل ذلك الإطار، مشبّعا بطموح الذهاب إلى الأمام نحو الاستقرار دوما، فإذا المباغتة تأتي من معقل الحذر الدائم. انقلاب عسكري يلوّح بشعارات راجفة، ليس للانقلابيين أنفسهم قناعة بتردادها. تلك المغامرة الغادرة لم تخنق فقط أكمام زهور الثورة، أو تكتفي بحفر قبور طموحات الثوار، أو شق أخاديد الفرقة الوطنية، بل أقحمت الشعب بأسره في هجير الأهوال والتهجير، كما عرّضت مؤسّسات الدولة برمّتها إلى التدمير. إنه (الانقلاب) ردة إلى أسخم المنزلاقات المدمرة في التاريخ السوداني.

***

أسوأ ما أنتجه انقلاب أكتوبر النكوص بالشعب السوداني والوطن إلى أرجوحة الارتداد بين الحاضر والماضي، فلمّا عايش الشعب محنة الضيق في الحياة اليومية إبّان سني عمر البشير العجاف، زمن استباحة المال العام واحتكار الامتيازات والقمع الباطش، ظل الشارع ينادي دعاة الإسلام السياسي بإرجاع الوطن إلى ما قبل نظام الإنقاذ. تحت وطأة إحباط ما بعد انقلاب 25 أكتوبر، أمسى الشعب ينادي الانقلابيين بإعادته إلى ما قبل الانقلاب. بل هناك من تمنّى الردّة إلى زمن “الإنقاذ”. لم يعد طوال هذه الحقبة من يتطلع إلى بشارات للمستقبل. هذه هي المحنة في أكثر صورها قتامةً. البؤس يحقق أرقاماً قياسية إبّان هذه الحقبة الكالحة، فثُلُثُ السودانيين في مدارات النزوح، وأكثر من الثلثين يكابدون شبح مجاعة، ربما تتجاوز حدّتها ما يصنّفها التاريخ بـ”مجاعة سنة ستة (1305 للهجرة) أبشع فواصل الحقبة المهدية.

لم يعطّل الانقلاب في السودان حركة الإنتاج فقط، بل دمّر بُناها التحتية، الوسطى والفوقية

***

نعم، اتسم أداء حكومة عبد الله حمدوك بكثير من التردّد على المستوى القيادي، كما على الصعيد الوطني. نعم، لم ينج الأداء العام من الأخطاء، لكن التجربة التاريخية أكّدت صدق مقولة السياسي البارع محمد أحمد محجوب، معالجة أخطاء التجربة الديمقراطية ممارسةُ مزيد من الديمقراطية. التاريخ شاهدٌ حاضرٌ على سوء دوافع أفعال الانقلابيين وقصدهم، فكلفة أخطاء حكومة حمدوك لا توازي مثقال ذرّة من شرور انقلاب أكتوبر البغيض. لو تسلّح قليلون من الرجال بشيءٍ من الشجاعة لأمكن إجهاض الانقلاب الأرعن، ولأصلحنا حال سلطة الثورة، ولتفادى البلد النكبة، ولتجنّب الشعب مهزلة الشتات المبكية ودفن الموتى بين الأنقاض وفي العراء مجردين من الأكفان ومن الصلاة والبكاء عليهم.

***

مقارنة بكل مهابط الانكسار القاتمة في تاريخ السودان، تشكل الحقبة الراهنة المتداعية عن الانقلاب الآثم أكثرهن قعوداً، فساداً، إجراماً وتوحشاً. في الذاكرة السودانية عدة مدائن مخرّبة بأيدي السودانيين إبّان حقبٍ متباعدة. منها سوبا، أربجي، الحلفاية، شندي. لكن الانقلابيين وحدهم خرّبوا أكثر مما فعل أسلافهم، عبر تلك المهابط التاريخية المتباينة. لم يعطّل هذا الانقلاب الأسود فقط حركة الإنتاج، بل دمّر بُناها التحتية، الوسطى والفوقية.

أقصر الطرق لإنهاء الحرب الظالمة في السودان عبر إطفاء النار، الاعتذار للشعب عن فتح صندوق باندورا وارتضاء خياراته

أكثر من ذلك تهتُكاً خرّب دولاب حركة الأجيال بإرباك مسارات الدراسة والتعليم، فرغم قول عدة مؤرخين، بينهم محمد عبد الرحيم، بتوقف التعليم بصورة شاملة في عهد المهدية، إلا أن الثابت هو استبدال المهدي وخليفته دولاب التعليم الاستعماري بمنهاج الثورة السودانية وثقافتها.

***

أما عظمُ أزمة شرور انقلاب أكتوبر فيتجسّد في غياب الحد الأدنى من أي رؤية للخروج من ظلام النفق المعتم الخانق، حيث حُشر الشعب. أكّد منظمو الانقلاب ومنفذوه قصورهم الفاضح، فهم عاجزون عن تلبيس الانقلاب أي خرقة منطقية أو غاية واهية. أكثر من ذلك عجزاً لا يزالون يترقّبون معجزة تحلّ بدارهم لتخرج الجميع من المأزق المستحكم، حتى الرهان على تحقيق نصر عسكري هو وهمٌ ومسخ، فكلما اتسعت رقعة الاقتتال أو الانتشار بعُد سراب الحسم. أقحمت هذه الأزمة الفادحة المجتمع السوداني بما استتبعت من عجزٍ فادح لكل مؤسّسات الدولة إلى ما يشبه حقبة أمراء الحرب، فحتى قادة الجيش يديرون المعارك على نحوٍ يوحي بغياب رئاسة أركان مركزية، تدامج بين القوات المتمركزة أو المتحرّكة في مواقع القتال المتباعدة. أما المليشيا فيتكشّف تعدّد أمراء النهب فيها كلما اتسع انتشارها وفظائعها.

***

إذ تشكّل الحروب الأهلية ظاهرة أفريقية فالسودان بؤرتها. أطفأنا الحرب في الجنوب باتفاق سلمي هندسته أياد خارجية، أوقف القتال وهيكَلَ الدولة في زمن السلم. نادى الراحل محمد إبراهيم نقد، مبكراً، بمعالجة مماثلة في دارفور. لم يصغ أحد لسكرتير الحزب الشيوعي، فانفجر الدم في دارفور. ارتضى اللبنانيون اتفاقاً صاغته أطراف عربية في دولة عربية بغية إنهاء 16عاما من التقتيل والتدمير. أنهت الحرب الأهلية الأميركية أربع سنوات من الاقتتال بين الجنوب والشمال، عبر استسلامات واتفاقات، أفضل ما فيها إسدال الستار على منظومة العبودية. ذلك لا يعني التهميش، بل الاضطهاد العنصري. وضعت الحرب الأهلية الصينية أوزارها بفضل الخطر الخارجي من دون هدنة او اتفاق، إذ لا يظل التهديد بانفجارها ماثلا، فالتاريخ يوفر الخيارات، لكن أنصار الحرب لا يقرأون. أقصر الطرق لإنهاء الحرب الظالمة عبر إطفاء النار، الاعتذار للشعب عن فتح صندوق باندورا وارتضاء خياراته.

العربي الجديد

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *