في وقت يعيش فيه السودان أزمات متلاحقة بفعل الحرب والنزوح وانهيار مؤسسات الدولة، يطفو إلى السطح ملف الذهب بوصفه أحد أكثر القطاعات عرضة للفساد واستغلال النفوذ. صفقات غامضة تُبرم بعيداً عن أعين المؤسسات الرقابية، وشركات حديثة التكوين تُمنح امتيازات ضخمة، بينما المواطن السوداني يدفع الثمن من قوته وأمنه. تقارير دولية تكشف عن قفزات غير مبررة في صادرات الذهب عبر دول الجوار، وباحثون وخبراء يحذرون من تضارب مصالح خطير يهدد بتحويل ثروة البلاد إلى غنيمة بيد قلة نافذة، في ظل غياب الشفافية وسيادة الفوضى..

تقرير: التغيير

أعادت الاتفاقية الأخيرة بين وزارة المعادن السودانية وشركة مصرية الجدل حول قضايا الفساد في قطاع الذهب. فقد وقّع وزير المعادن، نور الدائم طه، بالقاهرة اتفاقًا مع شركة «ديب ميتالز» المصرية للتعدين، تبلغ قيمته أكثر من 277 مليون دولار، يتضمن الاستكشاف والإنتاج في عدة مواقع امتياز بولايات الشمالية، نهر النيل، البحر الأحمر، والقضارف. كما تشمل الاتفاقية إنشاء مصنع لمعالجة مخلفات التعدين ومصفاة حديثة للذهب.

وبحسب مواقع إخبارية يمتلك رجل الأعمال المصري، محمد الجارحي 47% من الأسهم، بينما تعود بقية الأسهم إلى رجل الأعمال السوداني، عمر النمير.

ويرأس الشركة إداريًا المدير السابق للشركة السودانية للموارد المعدنية، مبارك أردول، الذي ارتبط اسمه بشبهات فساد عديدة إبان توليه إدارة أكبر الشركات الحكومية الإيرادية، غير أنّه نفى امتلاكه أي نسبة في الشركة أو صحة الاتهامات المتداولة حوله.

ونفت وزارة المعادن، عبر بيان صحفي، توقيع أي اتفاقية مع الشركة المصرية للتنقيب عن الذهب في عدد من الولايات. وأوضح وزير المعادن أن ما جرى لا يتعدى كونه إبداءً للرغبة في التعاون، وليس عقدًا ملزمًا.

سوابق

في عام 2015، تناقلت وسائل الإعلام السودانية خبر الاحتفال بتوقيع عقد بين وزارة المعادن وشركة روسية للتنقيب عن الذهب في ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل. وعلى غير العادة، جرى حفل التوقيع في القصر الجمهوري بحضور الرئيس المخلوع عمر البشير شخصيًا، حيث أُعلن حينها أن الشركة اكتشفت احتياطيات “خيالية” من الذهب تُقدَّر بـ46 ألف طن، بقيمة 289 مليار دولار. غير أنّ الأمر سرعان ما انكشف، ليتضح لاحقًا أن الشركة مجرد واجهة وهمية بلا قدرة فنية أو مالية حقيقية، وانتهى المشروع إلى الفشل.

وفي عام 2020، برزت إلى السطح شركتا «الفاخر للأعمال المتقدمة المحدودة» و**«مروي غولد»**، حيث سيطرتا حصريًا على عائدات صادر الذهب. وتعود ملكية الشركتين إلى قوات الدعم السريع، مع غطاء روسيإماراتي، ما أثار حينها جدلاً واسعًا حول احتكار القطاع وإقصاء بقية الفاعلين.

فساد

ويقول عضو الشبكة السودانية للمعدنيين السودانيين، الباقر ابن عوف، إن القاسم المشترك في فساد قطاع الذهب هم المسؤولون الحكوميون والنافذون المتحالفون مع ما يُعرف بـ”الرأسمالية الطفيلية” في إطار تحالف المال والسلطة. وأشار إلى أن وسائل الإعلام كشفت عن العديد من الصفقات المشبوهة، غير أنّه لم تُسجَّل حتى الآن أي محاكمات حقيقية، كما حدث في قضية شركتي «الفاخر» و«زبيدة».

وقال: «لا يُعقَل أن يُوكل أمر أهم وزارة لشخص لم يتجاوز الفحص الأمني، لكن حزبه السياسي أصرّ على الإبقاء عليه. والمفارقة أنّ الحزب نفسه كان قد اتهم الوزير في وقت سابق باختلاس أموال خلال ما عُرف بـ(اعتصام الموز) الشهير».

وقال عضو الشبكة السودانية للمعدنين السودانيين، الباقر ابن عوف: «الشركة المصرية يُقال إنها واجهة للإمارات ومرتبطة بعمليات غسل أموال، وتدور شبهات فساد حول الوزير، والمدير العام مبارك أردول، وعمر النمير المتهم في قضايا بنكية متعددة. هذه مجموعة مشبوهة تخطط للاستحواذ على ذهب السودان الذي يظل بلا حماية حقيقية».

“الشركة المصرية يُقال إنها واجهة للإمارات ومرتبطة بعمليات غسل أموال..”

 الباقر ابن عوف

ويقول ابن عوف: «من الطبيعي أن ينكر وزير المعادن الصفقة، فكما يقول المثل السوداني (الشينة منكورة). لكن من أَمِن العقاب أساء الأدب، وهؤلاء يدركون أنهم بمنأى عن أي محاسبة».

وأضاف ابن عوف أن وجود مبارك أردول في مصر، وزيارة وزير المعادن لتوقيع الاتفاقية هناك، يُعدّ انتقاصًا من السيادة الوطنية، متسائلًا: «ما الذي يمنع من أن تحضر الشركة إلى السودان؟ العديد من الشركات الأجنبية عادت للعمل، وهناك حاليًا شركة مصرية جاءت لصيانة الجسور بالخرطوم».

وأوضح أن حجم الصفقة يثير الشبهات، مضيفًا: «كيف لشركة لم تأتِ بعد إلى السودان أن تُعلن عن استثمارات بهذا الحجم، ما لم تكن واثقة من أنها ستُمنح مربعات منتجة في أسرع وقت».

مشهد يظهر منقبين محللين

مصر: ارتفاع صادرات الذهب

وأشار ابن عوف إلى أن تقارير متعددة تفيد بتهريب كميات كبيرة من الذهب السوداني إلى مصر عبر الصحراء، لافتًا إلى أن القاهرة استحوذت خلال فترة الحرب على كيلومترات جديدة داخل الحدود السودانية، يُقال إنها غنية بالمعادن المختلفة.

وتساءل: «لماذا أعلنت مصر مؤخرًا عن اكتشاف ذهب في منطقة حلايب وشلاتين المحتلة؟»، مضيفًا أن المصريين أنفسهم اعترفوا بأن شركة «شلاتين للثروة المعدنية» رفعت إنتاجها من الذهب بنحو 25% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، بزيادة تعادل 400 كيلوغرام، تصل قيمتها إلى 1.5 مليار جنيه.

وأضاف: في اعتقادي الشخصي هذا تغطية للكميات الكبيرة من الذهب السوداني الخام المهرب عبر الحدود لمصر.

تقارير دولية

أكد موقع «تريندز إن أفريكا» أن صادرات مصر من الذهب إلى الإمارات ارتفعت بنسبة 103% خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر 2024، لتصل قيمتها إلى 1.7 مليار دولار. كما زادت صادرات الذهب المصرية إلى سويسرا بنسبة 193%، بقيمة بلغت مليار دولار خلال الفترة نفسها. ووفقًا للتقرير، فإن هذه الطفرة تعود بالأساس إلى تدفق الذهب السوداني عبر مصر.

مخاطر

من جهته، يقول الباحث الاقتصادي أحمد بن عمر إن السودان يواجه خطرًا يتمثل في الصفقة التي عقدتها وزارة المعادن السودانية مع شركة مصريةسودانية تحمل اسم «ديب ميتالز»، والتي أعلنت عن نيتها الاستحواذ على 85% من منجم «أركيديا» للذهب ضمن صفقة استثمارية كبرى بقيمة نحو 277.3 مليون دولار، تشمل إنشاء مصنع لمعالجة المخلفات ومصفى للذهب. ورغم البيان الرسمي الصادر عن الوزارة، يرى بن عمر أن الصفقة ما زالت بعيدة عن الشفافية والمؤسسات.

وأضاف: «منح رخصة تعدين لشركة يشارك في رأسمالها سوداني يقوده مبارك أردول، المدير السابق لأكبر شركة حكومية للمعادن، يثير شبهة تضارب مصالح خطيرة».

ولفت إلى أن مبارك أردول مطّلع على كل بيانات قطاع المعادن: من حجم الاحتياطيات ونِسَب الإنتاج، إلى تفاصيل الشركات العاملة وحجم التحصيل منها، فضلًا عن علاقاته الشخصية والمصلحية مع وزير المعادن نفسه.

ويتساءل الباحث أحمد بن عمر: «كيف يمكن لوزير المعادن أن يمنح صفقة بهذا الحجم لشركة يقودها شخص يمتلك هذه الدرجة من المعلومات الحساسة والعلاقات المؤثرة؟»، معتبرًا أن مثل هذا الوضع يفتح الباب أمام استغلال النفوذ وتحويل البيانات الرسمية إلى أداة لتحقيق مصالح خاصة.

إرادة سياسية

وشدد عضو الشبكة السودانية للمعدنين السودانيين، الباقر ابن عوف، على ضرورة توفر إرادة سياسية حقيقية لوقف الفساد، لكنه استبعد حدوث ذلك في ظل استمرار الحرب وحالة الفوضى التي تعصف بالبلاد. وقال: «المتضرر في النهاية هو المواطن السوداني الغلبان الذي أنهكته الحروب والنزوح».

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.