مقدمة: حليفان على حافة الهاوية
في فجر 15 أبريل 2023، استيقظت الخرطوم على دوي المدافع وأزيز الرصاص، لتتحول في غضون ساعات إلى ساحة معركة مفتوحة بين حليفي الأمس: القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ “حميدتي”. لم يكن هذا الصراع وليد لحظته، بل كان التتويج الدامي لمسار طويل من التحولات السياسية والعسكرية التي شهدها السودان على مدى عقدين من الزمن. لقد مثّل هذا الصراع نقطة اللاعودة في علاقة الرجلين، وكشف عن عمق التصدعات داخل البنية الأمنية والعسكرية التي ورثها السودان عن نظام “الإنقاذ”.
يطرح هذا التقرير سؤالاً محورياً: كيف تحول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الذي صُنع ورُعي ليكون الذراع الضاربة لنظام عمر البشير وجهازه الأمني، من أداة قمعية في دارفور وحامٍ للنظام في الخرطوم، إلى فاعل سياسي واقتصادي مستقل، ثم إلى خصم عنيد يسعى للإطاحة بالمؤسسة العسكرية التي كانت ترعاه؟
للإجابة على هذا السؤال، يقدم هذا التحليل الاستقصائي قراءة معمقة تستند إلى مجموعة متنوعة من المصادر، أبرزها وثائق مسربة من داخل جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني، وردت في كتابي “الخندق” و”الطاعون” 1، بالإضافة إلى تقارير إعلامية دولية وعربية وتحليلات من مراكز أبحاث متخصصة. يتتبع التقرير مسار هذا التحول عبر ثلاث مراحل رئيسية: مرحلة “صناعة الوحش”، حيث كان حميدتي أداة في يد النظام؛ ومرحلة “الشريك الطموح”، التي برز فيها كفاعل سياسي بعد ثورة 2019؛ وصولاً إلى مرحلة “الصدام الحتمي”، التي انفجرت فيها تناقضات وجود قوتين مسلحتين في بلد واحد.
جدول (1): التسلسل الزمني للمحطات الرئيسية في مسار محمد حمدان دقلو “حميدتي” (20032023)
التاريخ |
الحدث |
الأهمية الاستراتيجية |
2003 |
اندلاع حرب دارفور وبروز ميليشيا “الجنجويد” بقيادة موسى هلال وحميدتي. |
بداية تحول حميدتي من تاجر إبل إلى قائد ميليشيا محلي، وبداية استخدامه من قبل النظام كقوة غير نظامية لقمع التمرد. |
أواخر 2007 |
تمرد حميدتي المؤقت على الحكومة بسبب خلافات مالية. |
كشف مبكر عن أن ولاء حميدتي للنظام كان مشروطاً بالمصالح المادية المباشرة وليس الولاء الأيديولوجي.1 |
2013 |
التأسيس الرسمي لـ “قوات الدعم السريع” وتبعيتها لجهاز الأمن والمخابرات. |
تقنين الميليشيا ومنحها غطاءً رسمياً وميزانية، مما سرّع من تضخمها كقوة موازية للجيش. |
2015 |
إرسال قوات الدعم السريع للمشاركة في حرب اليمن. |
بداية بناء شبكة علاقات إقليمية مستقلة لحميدتي، خاصة مع الإمارات والسعودية، واكتساب خبرة قتالية دولية. |
2017 |
اعتقال موسى هلال، المنافس الرئيسي لحميدتي في دارفور. |
ترسيخ مكانة حميدتي كقائد الميليشيات الأوحد في دارفور وسيطرته شبه الكاملة على مناجم الذهب.2 |
أبريل 2019 |
الإطاحة بعمر البشير وتعيين حميدتي نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي. |
انتقال حميدتي من الهامش إلى قلب السلطة في الخرطوم، وبداية شراكته المتوترة مع البرهان.2 |
يونيو 2019 |
مجزرة فض اعتصام القيادة العامة. |
توجيه اتهامات واسعة لقوات الدعم السريع بارتكاب المجزرة، مما أضر بصورته كـ”حامي الثورة” وعزز سمعته القمعية. |
أكتوبر 2020 |
توقيع اتفاق جوبا للسلام، مع تولي حميدتي رئاسة وفد التفاوض الحكومي. |
تعزيز مكانة حميدتي كرجل دولة وصانع سلام، مما منحه شرعية سياسية إضافية على الصعيدين الداخلي والدولي. |
أكتوبر 2021 |
انقلاب عسكري مشترك بقيادة البرهان وحميدتي يطيح بالحكومة المدنية. |
آخر تحالف استراتيجي بين الرجلين، لكنه فجّر الخلافات الكامنة بينهما حول مستقبل السلطة وهيكلة القوات المسلحة. |
ديسمبر 2022 |
توقيع “الاتفاق الإطاري” بين المكون العسكري والقوى المدنية. |
أصبح بند دمج قوات الدعم السريع في الجيش النقطة المحورية للخلاف الذي لا يمكن حله، مما وضع الطرفين على مسار تصادمي مباشر.4 |
أبريل 2023 |
اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع. |
التحول الكامل لحميدتي من أداة للنظام إلى عدو للدولة، وبداية صراع شامل على السلطة. |
الجزء الأول: صناعة الوحش حميدتي كأداة للنظام
لم يكن صعود محمد حمدان دقلو “حميدتي” نتيجة مصادفة أو تطور طبيعي، بل كان نتاجاً لاستراتيجية مدروسة تبناها نظام “الإنقاذ” وجهازه الأمني. تمثلت هذه الاستراتيجية في خلق قوة قمعية موازية، تعمل خارج الهيكل التقليدي للجيش النظامي، وتدين بالولاء المباشر لرأس النظام. كان الهدف من هذه السياسة هو حماية النظام من أي انقلابات عسكرية محتملة، وضمان وجود ذراع ضاربة يمكن استخدامها في حروب الداخل دون الخضوع لقيود المؤسسة العسكرية الرسمية. لكن هذه الاستراتيجية، التي بدت ناجحة في تأمين بقاء النظام لعقدين من الزمن، حملت في طياتها بذور تدمير الدولة نفسها، عبر تآكل احتكارها للعنف وخلق مراكز قوى متعددة، مما جعل الصراع الأهلي عند انهيار السلطة المركزية أمراً شبه حتمي.
الفصل الأول: من الهامش إلى قلب العاصفة
تنبع جذور ظاهرة حميدتي من سياسات التهميش التاريخية التي عانى منها إقليم دارفور. انحداره من قبيلة الرزيقات، وهي من القبائل العربية الرعوية في الإقليم، جعله في نظر نظام الخرطوم، الذي كان يسيطر عليه “أولاد البحر” من النخب النيلية، أداة مثالية يمكن توظيفها دون أن تشكل تهديداً مباشراً على بنية السلطة التقليدية.
كانت حرب دارفور، التي اندلعت في عام 2003، هي الحاضنة التي نمت فيها قوة حميدتي. يكشف تقرير داخلي لجهاز الأمن والمخابرات أن خطة الحكومة كانت واضحة: “توظيف القبائل العربية لدحر الحركات الدارفورية… باعتبار أن القبائل العربية لها عداء تاريخي مع هذه القبائل”.1 في هذا السياق، برز حميدتي كقائد ميليشيا فعال، قادر على تحقيق نتائج على الأرض لم يتمكن الجيش النظامي من تحقيقها بالسرعة والكفاءة نفسيهما.
لكن ولاء حميدتي لم يكن مطلقاً. يكشف تقرير آخر لجهاز الأمن عن تمرده في أواخر عام 2007، والذي لم يكن بدوافع سياسية، بل “نتيجة خلافاته مع قيادة الفرقة العسكرية بنيالا… لعدم الإيفاء بالمستحقات المالية لبعض عناصره”.1 هذا التمرد المبكر يمثل مؤشراً حاسماً على الطبيعة البراغماتية والمرتزقة لعلاقته بالنظام منذ البداية. لم يكن ولاؤه مبنياً على أيديولوجية “المشروع الحضاري” أو الانتماء للحركة الإسلامية، بل كان قائماً على المصالح المادية المباشرة. هذه الديناميكية، التي بدأت بخلاف حول رواتب المقاتلين، ستتكرر لاحقاً على نطاق أوسع بكثير، عندما أصبح على المحك إمبراطورية اقتصادية وسياسية كاملة.
الفصل الثاني: تقنين القوة وتأسيس الإمبراطورية
أدرك نظام البشير أهمية حميدتي، لكنه أدرك أيضاً خطورة وجود ميليشيا قوية تعمل خارج أي إطار قانوني. فكان الحل هو “تقنين الوحش”. يكشف كتاب “الطاعون” استناداً إلى وثائق جهاز الأمن أن العميد عبد الغفار الشريف، الذي كان آنذاك مدير إدارة النشاط الجهوي والعسكري بالجهاز، قدم في عام 2013 “دراسة متكاملة للاستفادة من محمد حمدان حميدتي وتكوين قوات ما سمي بالقوات الدعم السريع”. اللافت في الأمر أن قيادة القوات المسلحة رفضت الفكرة في البداية “باعتبارها قوات قبلية، بينما القوات المسلحة قوات قومية”، مما أدى إلى إسناد تبعية هذه القوات الوليدة إلى جهاز الأمن والمخابرات الوطني مباشرة.1 كانت هذه الخطوة نقطة تحول، حيث منحت الميليشيا غطاءً رسمياً وميزانية مفتوحة، مما سرّع من تضخمها وتحولها إلى جيش موازٍ.
كان مصدر القوة الحقيقي لحميدتي هو سيطرته شبه المطلقة على مناجم الذهب في دارفور، خاصة بعد إزاحة منافسه الرئيسي موسى هلال في عام 2017.2 هذه الثروة الهائلة، التي كانت تدار عبر شبكة من الشركات العائلية مثل شركة “الجنيد” ويتم تصديرها مباشرة إلى دبي، منحته استقلالية مالية كاملة عن ميزانية الدولة. لم يعد بحاجة إلى انتظار “المستحقات المالية” من الخرطوم كما كان في 2007؛ بل أصبح هو من يمول قواته ويسلحها ويضمن ولاءها الشخصي له، مما حول قوات الدعم السريع من ميليشيا تابعة للدولة إلى جيش خاص يأتمر بأمر قائده فقط.
لم يقتصر نفوذ حميدتي على الداخل، بل امتد إقليمياً. استخدم نظام البشير قوات الدعم السريع كأداة لتنفيذ أجنداته الخارجية، فأرسلها للقتال في حرب اليمن إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية، وفي ليبيا لدعم قوات خليفة حفتر. هذه المشاركات لم تكن مجرد تنفيذ لأوامر عليا، بل كانت استثماراً استراتيجياً ذكياً من قبل حميدتي. لقد أكسبته هذه الحروب خبرة قتالية دولية، وعززت شرعيته كفاعل إقليمي، والأهم من ذلك، أنها فتحت له قنوات اتصال مباشرة مع قوى إقليمية نافذة، خاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.6 لم يعد حميدتي بحاجة إلى الخرطوم كوسيط لعلاقاته الخارجية؛ لقد أصبح لاعباً مستقلاً على الساحة الإقليمية، له حلفاؤه ومصادر دعمه الخاصة، وهو ما مهد الطريق لاستقلاليته السياسية الكاملة عن البرهان لاحقاً.
الجزء الثاني: الشريك الطموح حميدتي كفاعل سياسي
لم تكن الفترة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بنظام البشير في أبريل 2019 فترة شراكة حقيقية بين المكونين العسكري والمدني، ولا حتى داخل المكون العسكري نفسه. بل كانت “حرب مواقع” باردة بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ممثل المؤسسة العسكرية التقليدية، والفريق أول محمد حمدان دقلو، قائد القوة الموازية. كل خطوة سياسية، من تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، مروراً بمجزرة فض الاعتصام، وصولاً إلى اتفاق جوبا للسلام، كانت في جوهرها مناورة من كل طرف لتعزيز نفوذه وتأمين مصالحه على حساب الآخر، تمهيداً للمواجهة النهائية التي كانت تلوح في الأفق.
الفصل الثالث: راكب الثورة
عندما بلغت الثورة الشعبية ذروتها في أبريل 2019، اتخذ حميدتي قراراً حاسماً بالانحياز للثوار والإطاحة بعمر البشير، الرجل الذي صنعه ورعاه. لم يكن هذا التحرك نابعاً من قناعة ديمقراطية مفاجئة، بل كان خطوة براغماتية محسوبة، أدرك من خلالها أن سفينة النظام القديم تغرق، وأن السبيل الوحيد للبقاء في السلطة هو القفز منها والانضمام إلى المنتصرين.
مستغلاً القوة العسكرية الضاربة لقواته المنتشرة في العاصمة، فرض حميدتي نفسه لاعباً رئيسياً في معادلة ما بعد البشير، حيث تم تعيينه نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي الذي ترأسه البرهان.3 شكل هذا المجلس تحالف ضرورة بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، لكنه كان تحالفاً محفوفاً بالشكوك منذ اللحظة الأولى، حيث يمثل كل طرف مصالح وبنى عسكرية مختلفة.2
لم يدم شهر العسل طويلاً. ففي 3 يونيو 2019، تعرض اعتصام المتظاهرين السلميين أمام القيادة العامة للجيش لعملية فض دموية، وُجهت فيها اتهامات واسعة لقوات الدعم السريع بالضلوع في ارتكاب “مجزرة” راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى. هذه الحادثة أطاحت بمحاولات حميدتي لتقديم نفسه كـ”حامي الثورة”، وأعادت إلى الأذهان تاريخ قواته القمعي في دارفور، وكشفت عن استمرارية الطبيعة الوحشية لهذه القوات حتى في قلب العاصمة.
الفصل الرابع: صراع تحت الرماد
كان انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أطاح بالحكومة المدنية الانتقالية، آخر عمل مشترك كبير بين البرهان وحميدتي. لكنه كان أيضاً بداية النهاية لتحالفهما الهش. فبعد الانقلاب، بدأ حميدتي يغير خطابه تدريجياً، منتقداً الانقلاب الذي شارك فيه، واصفاً إياه بأنه “خطأ” و”بوابة لعودة فلول النظام السابق”.4
لم يكن هذا النقد نابعاً من صحوة ضمير ديمقراطية، بل كان تكتيكاً سياسياً ذا أهداف مزدوجة. أولاً، كان يهدف إلى مغازلة القوى المدنية والثورية التي كانت تعارض الانقلاب بشدة، في محاولة لكسب شرعية سياسية لم يكن يمتلكها، وتقديم نفسه كبديل أكثر اعتدالاً من البرهان. ثانياً، وهو الأهم، كان هجومه على “الفلول” يستهدف بشكل مباشر قاعدة الدعم الرئيسية للبرهان، المتمثلة في كوادر الحركة الإسلامية التي أعادها البرهان إلى مفاصل الدولة والجيش بعد الانقلاب. وبهذا، كان حميدتي يشن حرباً بالوكالة على خصمه المباشر، محاولاً تفكيك قاعدة سلطته من الداخل.
في موازاة ذلك، عمل حميدتي على تعزيز مكانته كرجل دولة. كان توليه رئاسة وفد التفاوض الحكومي الذي أفضى إلى توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020، خطوة استراتيجية سمحت له بتجاوز صورته كقائد ميليشيا، وتقديم نفسه كصانع سلام قادر على حل أعقد أزمات السودان. لقد كان يبني لنفسه شرعية موازية لشرعية البرهان، شرعية لا تستند فقط إلى القوة العسكرية، بل أيضاً إلى الإنجاز السياسي والدور الإقليمي.
الجزء الثالث: الصدام الحتمي حميدتي كعدو للدولة
كانت قضية دمج قوات الدعم السريع في الجيش هي النقطة التي تحول فيها الصراع الخفي على النفوذ إلى صراع وجودي مفتوح. بالنسبة للمؤسسة العسكرية بقيادة البرهان، كان الدمج يعني استعادة احتكار الدولة لاستخدام القوة، وإنهاء ظاهرة “الجيش الموازي” التي قوضت هيبة القوات المسلحة. أما بالنسبة لحميدتي، فكان الدمج يعني التجريد من كل مصادر قوته: استقلاليته العسكرية، إمبراطوريته الاقتصادية، ونفوذه السياسي. في هذا الصراع الصفري، لم يكن هناك أي مجال لحل وسط، وكانت المواجهة العسكرية هي المخرج الوحيد لهذا التناقض البنيوي في هيكل السلطة السودانية.
الفصل الخامس: الاتفاق الإطاري.. القشة التي قصمت ظهر البعير
فجّر “الاتفاق الإطاري” الموقع في ديسمبر 2022 كل الخلافات الكامنة بين الطرفين، وحولها إلى مواجهة علنية. تركز الخلاف حول ثلاثة محاور رئيسية تتعلق بدمج قوات الدعم السريع 4:
- الجدول الزمني للدمج: أصر الجيش على فترة دمج قصيرة لا تتجاوز عامين، وهو ما يعني تفكيكاً سريعاً لقوات الدعم السريع. في المقابل، طالب حميدتي بفترة انتقالية طويلة تصل إلى 10 سنوات، وهو ما كان يعني فعلياً الحفاظ على استقلالية قواته وتأجيل الدمج إلى أجل غير مسمى.
- هيكل القيادة: نشب خلاف حاد حول من سيقود القوات بعد الدمج. طالب حميدتي بأن تكون القيادة العليا للقوات المسلحة خاضعة لرئيس الدولة المدني المرتقب، مما يضمن تحييد سيطرة البرهان. بينما أصر البرهان وقيادة الجيش على أن تظل القيادة في يد القائد العام للجيش، وهو ما يعني خضوع حميدتي وقواته لسلطته المباشرة.
- الوضع القانوني والاقتصادي: طالب الجيش بإلغاء قانون قوات الدعم السريع الذي يمنحها استقلالية، ودمج شركاتها الاقتصادية الواسعة تحت ولاية وزارة المالية.4 في المقابل، اشترط حميدتي مساواة ضباطه في الامتيازات مع نظرائهم في الجيش، وإصلاح المؤسسة العسكرية وتطهيرها من عناصر النظام السابق “الفلول” قبل أي عملية دمج.
فشلت كل الوساطات المحلية والدولية في تقريب وجهات النظر، لأن الخلاف لم يكن فنياً بل وجودياً. كان كل طرف يرى في مطالب الآخر تهديداً مباشراً لبقائه.
جدول (2): مقارنة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع (عشية حرب أبريل 2023)
المعيار |
القوات المسلحة السودانية (SAF) |
قوات الدعم السريع (RSF) |
التعداد التقديري |
حوالي 200,000 جندي |
حوالي 100,000 مقاتل |
التسليح |
تسليح تقليدي شامل: طيران حربي، مدفعية ثقيلة، مدرعات ودبابات. يعاني من مشاكل لوجستية وصيانة. |
تسليح خفيف ومتطور: عربات دفع رباعي مسلحة بكثافة (تاتشرات)، صواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف، طائرات بدون طيار، ومدفعية متحركة. |
مصادر التمويل |
ميزانية الدولة الرسمية (حوالي 70% من الميزانية العامة تذهب للأمن والدفاع)، والشركات التابعة للمنظومة الصناعية العسكرية. |
تمويل ذاتي ضخم من السيطرة على مناجم الذهب وتجارته، استثمارات متنوعة (مجموعة الجنيد)، وعقود خارجية (حرب اليمن، مكافحة الهجرة)، ودعم إقليمي مباشر. |
الحلفاء الداخليون |
كوادر الحركة الإسلامية (“الفلول”) داخل الجيش والمؤسسات الأمنية، بعض الإدارات الأهلية التقليدية. |
شبكة واسعة من التحالفات القبلية في دارفور وكردفان، ولاء شخصي مطلق من المقاتلين للقائد “حميدتي”. |
الحلفاء الإقليميون |
دعم سياسي وعسكري من مصر التي ترى في الجيش امتداداً لمؤسسات الدولة الرسمية.19 |
دعم مالي وعسكري ولوجستي قوي من الإمارات العربية المتحدة، وعلاقات مع مجموعة فاغنر الروسية.6 |
الفصل السادس: الطريق إلى الحرب
في الأسابيع التي سبقت 15 أبريل 2023، تصاعد التوتر بشكل خطير. بدأت قوات الدعم السريع تحشيداً عسكرياً غير مسبوق، حيث حركت آلافاً من مقاتليها من دارفور ومناطق أخرى باتجاه العاصمة الخرطوم وقاعدة مروي الجوية الاستراتيجية شمال البلاد. رد الجيش على هذه التحركات بنشر قواته في مواقع حيوية، واعتبر تحركات الدعم السريع “غير قانونية” و”بدون موافقة القيادة العامة”.
تضاربت الروايات حول من أطلق الرصاصة الأولى. اتهم الجيش قوات الدعم السريع بمهاجمة مقراته ومواقع سيادية، بما في ذلك القيادة العامة وبيت الضيافة الرئاسي، في محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة. في المقابل، زعمت قوات الدعم السريع أن تحركها كان دفاعياً واستباقياً، رداً على حصار قواتها في معسكر “سوبا” جنوب الخرطوم من قبل الجيش، وأنها كانت تواجه “مؤامرة من الفلول” تهدف إلى تصفيتها.
بغض النظر عن هوية البادئ، تحولت الاشتباكات المحدودة بسرعة إلى حرب شاملة للسيطرة على العاصمة ومرافق الدولة الحيوية. كانت هذه اللحظة هي القطيعة النهائية، والتحول الكامل لحميدتي من ذراع النظام وشريكه في السلطة، إلى عدو للدولة ومؤسستها العسكرية، ليغرق السودان في أتون حرب أهلية مدمرة لا تزال مستعرة حتى اليوم.
خاتمة ورؤى استراتيجية: إرث الدولة الفاشلة
إن التحول الدراماتيكي لمحمد حمدان دقلو “حميدتي” من حامٍ للنظام إلى خصم يهدد بتفكيك الدولة، ليس مجرد قصة صعود أمير حرب، بل هو النتيجة المنطقية والحتمية لثلاثة عقود من سياسات نظام “الإنقاذ”. لقد قامت هذه السياسات على تفويض العنف لجهات غير نظامية، وتغذية الطموحات الشخصية على حساب المؤسسات، وتنمية مراكز قوى اقتصادية وعسكرية موازية تعمل خارج سيطرة الدولة. كان النظام يعتقد أنه بهذه الطريقة يؤمن نفسه من الانقلابات، لكنه في الحقيقة كان يحفر قبر الدولة السودانية نفسها.
الحرب الدائرة اليوم ليست مجرد صراع بين جنرالين على السلطة، بل هي في جوهرها صدام بين رؤيتين متناقضتين لمستقبل السودان: دولة المؤسسات التقليدية، بكل ما تحمله من إرث المركزية والبيروقراطية، والتي يمثلها البرهان والجيش؛ ودولة الميليشيا القائمة على الولاءات القبلية والشخصية والثروة المنهوبة، والتي يجسدها حميدتي وقوات الدعم السريع.
إن التداعيات الكارثية لهذا الصراع على وحدة السودان ونسيجه الاجتماعي ستستمر لعقود قادمة. ويكمن التحدي الأكبر لأي تسوية سياسية مستقبلية في القدرة على تفكيك إرث “الدولة الموازية” التي بناها نظام الإنقاذ. إن أي حل مستدام يجب أن يعالج جذور المشكلة، وذلك من خلال:
- إنهاء ازدواجية القوات المسلحة: لا يمكن أن يستقر السودان بوجود جيشين. يجب أن تفضي أي تسوية إلى عملية دمج وتسريح ونزع سلاح شاملة، تؤدي إلى مؤسسة عسكرية وطنية واحدة، مهنية، وغير مسيسة، وتخضع بالكامل لسلطة مدنية ديمقراطية.
- تفكيك الاقتصاد الموازي: يجب تفكيك الإمبراطوريات الاقتصادية التي بنتها الميليشيات، خاصة في قطاع الذهب والموارد الطبيعية الأخرى، وإعادة هذه الثروات إلى خزينة الدولة لتُستخدم في التنمية وإعادة الإعمار.
- المحاسبة والعدالة الانتقالية: لا يمكن تحقيق سلام دائم دون محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت في دارفور، وفي الخرطوم، وفي جميع أنحاء السودان، سواء من قبل قوات الدعم السريع أو القوات المسلحة.
إن قصة حميدتي هي تذكير مؤلم بأن الوحوش التي تصنعها الأنظمة الديكتاتورية لحمايتها، غالباً ما تكون هي نفسها التي تلتهمها في النهاية، وتترك وراءها وطناً ممزقاً وشعباً يدفع الثمن.
مراجع
- الطاعون_ إختراق دولة جهاز الأمن والمخابرات في السودان
- Hemedti Wikipedia, accessed August 10, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Hemedti
- ترقية “حميدتي” لفريق أول وتعيينه نائباً لرئيس المجلس العسكري Al Arabiya, accessed August 10, 2025, https://www.alarabiya.net/arabandworld/2019/04/13/%D8%AA%D8%B1%D9%82%D9%8A%D8%A9%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%AA%D9%8A%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D9%8A%D9%86%D9%87%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%A8%D8%A7%D9%8B%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A
- السودان .. تفاصيل جديدة تكشف بداية الخلاف بين البرهان وحميدتي الذي تطور لاشتباك مسلح في الخرطوم صحيفة المرصد, accessed August 10, 2025, https://almarsd.com/article/175334/%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86..%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A8%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86%D9%88%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%84%D8%A7%D8%B4%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%83%D9%85%D8%B3%D9%84%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D8%B7%D9%88%D9%85
- مصادر خاصة تكشف للجزيرة نت أسباب الخلاف بين البرهان وحميدتي, accessed August 10, 2025, https://www.aljazeera.net/news/2023/2/21/%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A9%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81%D9%84%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8
- بعد خلاف حميدتي والبرهان.. إليك أبرز حلفاء الرجلين ومن الأقوى، واحتمالات المواجهة بين الجيش والدعم؟ عربي بوست, accessed August 10, 2025, https://arabicpost.net/%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA/2023/02/21/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A8%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86%D9%88%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%AA%D9%8A/
- The Gulfbacked counterrevolution in Khartoum Middle East Institute, accessed August 10, 2025, https://www.mei.edu/publications/gulfbackedcounterrevolutionkhartoum
- مسار الثنائي البرهان حميدتي من رفقة السلاح إلى حرب الأعداء | اندبندنت عربية, accessed August 10, 2025, https://www.independentarabia.com/node/442941/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86%D8%AD%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%AA%D9%8A%D9%85%D9%86%D8%B1%D9%81%D9%82%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%A5%D9%84%D9%89%D8%AD%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D8%A1
- Transitional Military Council (2019) Wikipedia, accessed August 10, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Transitional_Military_Council_(2019)
- مسؤولية الحزب الشيوعي في الحرب لا تقل عن مسؤولية الفلول moatinoon.com, accessed August 10, 2025, https://moatinoon.com/cgibin/sales?arlang=Arabic&arcode=240107172124&type=article
- Hemedti Says Regrets Participating in Military Coup in Sudan, accessed August 10, 2025, https://english.aawsat.com/home/article/4169031/hemedtisaysregretsparticipatingmilitarycoupsudan
- Rapid Support Forces leader says Sudan military coup ‘was a wrong step’ Dabanga Radio TV Online, accessed August 10, 2025, https://www.dabangasudan.org/en/allnews/article/rapidsupportforcesleadersayscoupwasawrongstep
- Sudan’s Feared Paramilitary Leader Tries to Launder His Image, With Western Help, accessed August 10, 2025, https://dawnmena.org/sudansfearedparamilitaryleadertriestolaunderhisimagewithwesternhelp/
- السودان.. “الشرق” تشرح تفاصيل الخلاف بين البرهان وحميدتي, accessed August 10, 2025, https://asharq.com/politics/47268/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%AD%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A8%D9%8A%D9%86/
- في 13 نقطة.. جذور ومحطات الخلاف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع الجزيرة نت, accessed August 10, 2025, https://www.aljazeera.net/news/2023/4/13/%D9%81%D9%8A13%D9%86%D9%82%D8%B7%D8%A9%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A8%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4
- الخلاف يدور في المواقيت الزمنية وتشكيل هيئة القيادة دمج الدعم السريع في الجيش وتعثر المفاوضات ومخاوف من مواجهة عسكرية, accessed August 10, 2025, https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%81%D9%8A%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%A9%D9%88%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A/
- السودان.. خلافات بشأن مواعيد دمج “الدعم السريع” بالجيش الشرق للأخبار, accessed August 10, 2025, https://asharq.com/politics/48153/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%AF%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D9%85/
- أحمد خليل: هذه تفاصيل الخلاف الكبير الذي نشب في اجتماع الجيش السوداني والدعم السريع, accessed August 10, 2025, https://www.youtube.com/watch?v=MBUkU7FDILM
- المعركة الخفية على السلطة بين مصر والإمارات في السودان الإمارات ليكس, accessed August 10, 2025, https://emiratesleaks.com/%D8%B9%D9%84%D9%89%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9/
- Fractured Triangle: How the Sudan war is dividing Egypt, the UAE, and Saudi Arabia, accessed August 10, 2025, https://sudantribune.com/article303631/
- Hemedti and Burhan Lead Sudan Into a Dark Tunnel What Relation Do Egypt and the UAE Have? AlEstiklal Newspaper, accessed August 10, 2025, https://www.alestiklal.net/en/article/hemedtiandburhanleadsudanintoadarktunnelwhatrelationdoegyptandtheuaehave
- Russian mercenaries in Sudan: What is the Wagner Group’s role? Al Jazeera, accessed August 10, 2025, https://www.aljazeera.com/news/2023/4/17/whatisthewagnergroupsroleinsudan
- Documents Reveal Wagner’s Golden Ties to Sudanese Military Companies | OCCRP, accessed August 10, 2025, https://www.occrp.org/en/investigation/documentsrevealwagnersgoldentiestosudanesemilitarycompanies
المصدر: صحيفة الراكوبة