صرخات مكتومة في أرض السودان ..!!؟؟

د. عثمان الوجيه
في قلب السودان، حيث تتصاعد نيران حرب ضروس بين براثن قوتين متصارعتين، تتكشف فصول مأساة إنسانية تقشعر لها الأبدان، عامان مضيا على اندلاع هذا الصراع الوحشي في البلاد، ليُلقي بظلاله القاتمة على حياة الملايين، ويُشعل فتيل أزمة هي الأسوأ في عالمنا المعاصر، وسط هذه الفوضى العارمة، تتواتر تقارير مُفزعة تُشير بأصابع الاتهام إلى استخدام العنف الجنسي كسلاح إرهاب مُمنهج، صندوق الأمم المتحدة للسكان، صوت الحق الإنجابي، يُطلق صيحة فزع مُحذراً من أن أكثر من اثني عشر مليون امرأة وفتاة، بل وعدد متزايد من الرجال والفتيان، باتوا أهدافاً مُحتملة لهذه الجرائم الشنيعة، انتهاكات حقوق الإنسان أصبحت سمة بارزة لهذا النزاع الدامي، تُرتكب بلا هوادة من كلا الطرفين، أكثر من ثلاثين مليون سوداني يتضورون جوعاً للمساعدة العاجلة، بينما نزح الملايين من ديارهم بحثاً عن ملاذ آمن، تاركين خلفهم عشرات الآلاف من القتلى ودماراً يطال كل شيء، شبح المجاعة يخيم على حياة ما يقارب الخمسة وعشرين مليون إنسان، يُضاف إلى ذلك التقارير المقلقة والمتزايدة التي تُفيد باستغلال العنف الجنسي لبث الرعب في قلوب المدنيين الأبرياء، وعلى الرغم من بعض التحولات الطفيفة في موازين القوى، حيث استعاد الجيش السوداني مؤخراً بعض المناطق الاستراتيجية في الخرطوم، إلا أن قبضة قوات المليشيا شبه العسكرية كانت لا تزال قوية آنذاك، تُنذر بمزيد من المآسي، تتجسد فظاعة الوضع في شهادات الناجين، كقصة “إحداهن” التي روت بقلب دامع كيف تعرضت للتفتيش العاري والضرب والاحتجاز التعسفي دون أي تهمة تُذكر، هذه الشهادات المروعة تُؤكد على أن أكثر من اثني عشر مليون إنسان، غالبيتهم من النساء والفتيات، يواجهون خطر الاعتداء الجنسي، وهو ارتفاع مذهل بنسبة ثمانين بالمائة مقارنة بالعام السابق، منذ الخامس عشر من أبريل عام ألفين وثلاثة وعشرين، تاريخ اندلاع هذه الحرب اللعينة، تفاقم الوضع بشكل كارثي، ما يقارب ثلاثة عشر مليون شخص أُجبروا على النزوح القسري، أي ما يعادل ثلث سكان السودان تقريباً، النظام الصحي انهار بالكامل تقريباً، تاركاً المدنيين بلا سند في مواجهة الأمراض والجروح، في خضم هذا الظلام الدامس، يُضيء صندوق الأمم المتحدة للسكان شمعة أمل ضعيفة، ينتشر في ربوع السودان بتسعين فريقاً صحياً متنقلاً، وأكثر من مائة وعشرين مرفقاً صحياً، وإحدى وخمسين مكاناً آمناً للناجين من العنف الجنسي، يقدمون خدمات الصحة الإنجابية والحماية، تشمل العلاج السريري، والاستشارات النفسية لما بعد الصدمة، والإحالات للحصول على المساعدة القانونية، بالإضافة إلى جهود التوعية المجتمعية بمخاطر العنف الجنسي والإكراه والاتجار بالبشر، لكن حتى هذه الجهود الإنسانية النبيلة لا تسلم من بطش الحرب، أكثر من خمسمائة وأربعين هجمة استهدفت المرافق الصحية خلال العامين الماضيين، حيث تُنهب الإمدادات والمعدات بشكل متكرر، ويُستهدف العاملون الصحيون والمرضى وسيارات الإسعاف بالعنف والترهيب، تتحدث أخصائية اجتماعية تعمل في مكان آمن تدعمه الأمم المتحدة في مدينة دنقلا، بصوت يرتجف ألماً، قائلة إن المرافق الصحية لم تعد ملاذاً آمناً، تروي قصة مروعة لامرأة شابة تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، مطلقة وأم لطفلة، تعرضت للاغتصاب داخل مستشفى للولادة، اقتادتها قوات المليشيا مع نساء أخريات، وانتهكت حرمتهن بوحشية، فقدت الضحية وعيها، وعندما استيقظت، وجدت نفسها محاطة بفتيات أخريات، جميعهن شاركنها ذات المصير المُر، ثم تُركن في الشارع بلا رحمة، اكتشفت هذه الشابة لاحقاً أنها تحمل في أحشائها سفاحاً، وصلت إلى المكان الآمن، حيث تلقت الدعم النفسي والرعاية الطبية اللازمة، والأخصائية الاجتماعية تؤكد أن المرأة وطفلها يتعافيان ببطء من هذه الصدمة المروعة، وأنهم مستمرون في تقديم المساعدة لها لتجاوز هذه المحنة القاسية، هذه ليست مجرد أرقام وتقارير، بل هي قصص إنسانية مُفجعة، صرخات مكتومة في أرض السودان، تستغيث ضمائر العالم، إنها دعوة مُلحة لوقف هذا العنف المستشري، وحماية الأبرياء، وتقديم الدعم اللازم للناجين، والسعي بكل قوة لإنهاء هذه الحرب التي تُدمر الحاضر وتُهدد المستقبل .. هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن أوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي: “ليلٌ لا ينتهي في سوداني الجريح” فمنذ الخامس عشر من أبريل عام ألفين وثلاثة وعشرين، والسودان، وطني الذي أحبه، يئن تحت وطأة حرب ضروس، جيشه النظامي يقاتل ميليشيا الدعم السريع المتمردة، ونيران الصراع لا تزال مستعرة حتى يومنا هذا، ملايين البشر شُردوا من ديارهم، وآلاف الأرواح أُزهقت بلا ذنب، والأرض الخضراء يبست، والحياة الجميلة تلاشت، طوال هذه الفترة المُريرة، وأنا في منفاي الاختياري، أو عبر اتصالاتي بمن نزحوا داخل السودان أو لجأوا إلى خارجه، لم ينقطع أنيني الداخلي وأنا أستمع إلى شكواهم، بلدياتِي، الذين تقاسموا معي مرارة الغربة أو لهيب النزوح، كانوا يشتكون لي من أرق يلازمهم، من ليالٍ لا يعرفون فيها طعم النوم، كنت أرد عليهم جميعاً بجملة واحدة، أؤمن بها إيماناً راسخاً : بعد أن تتوقف هذه الحرب اللعينة ويستقر السودان، سيحتاج شعبنا بأكمله إلى تأهيل نفسي وروحي، إلى ترميم ما دمرته الحرب في نفوسنا قبل بيوتنا، لكن، كانت هناك أصوات أخرى، أصوات ترى أن المغتربين السودانيين، ينعمون بحال أفضل ممن يقبعون تحت وطأة الحرب في الداخل، كنت أُبادر إلى توضيح الحقيقة المرة لهم، مؤكداً أن هذه الحرب اللعينة لم تترك بيتاً سودانياً إلا ودخلته، بطريقة أو بأخرى، من فقد عزيزاً بكاه، ومن تشتتت أسرته يبحث عنها في المنافي، ومن فقد وظيفته بات بلا معيل، ومن دُمر منزله بات بلا مأوى، ومن سُرقت أملاكه أصبح فقيراً معدماً، ومن حُرم أطفاله من التعليم يراقب مستقبلهم يضيع، ومن تعسر عليه العلاج يتألم بصمت، أنا نفسي، وغيري الكثيرون، نخاف من المستقبل المجهول الذي ينتظرنا، نسرف في التفكير ليلاً ونهاراً، نحاول استشراف الغد المثقل بالهموم، وهذا التفكير المستمر يحرمنا من النوم، يسلب منا القدرة على الاسترخاء والراحة، لذلك، أرى بوضوح لا لبس فيه أن الشعب السوداني بأكمله، كل فرد فيه، يحتاج إلى تأهيل عميق، إلى مداواة الجراح التي أحدثتها هذه الحرب في أرواحنا، وإلى إعادة بناء الثقة والأمل في غد أفضل، نعم، كلنا، بلا استثناء، نحتاج إلى الكثير الذي لا يسعه الكلام، إلى وطن يتعافى، وإلى نفوس تستعيد سلامها
I see clearly unambiguously that the entire Sudanese people, every individual in it, needs to be a deep rehabilitation, to the healing of the wounds that this war brought about in our soul
وعلى قول جدتي: “دقي يا مزيكا !!”.
خروج: “أنين الأرض وصدى الجور !!” ففي قلب أرض بورما (ميانمار سابقًا)، حيث تتعانق التلال الخضراء مع سهول الأرز الشاسعة، ضرب القدر ضربته القاسية في الثامن والعشرين من شهر مارس/آذار، زلزلت الأرض هزة عنيفة بلغت قوتها 7.7 درجات على مقياس ريختر، وكأن غضب الطبيعة قد تفجر فجأة بعد سبات طويل دام قرابة قرن من الزمان، ارتجفت البنايات الشاهقة كما ترتجف ورقة خريف في مهب الريح، وانهارت المنازل المتواضعة كأحلام تبددت في لحظة، تحولت المدن والقرى إلى أطلال دامية، وارتفع أنين الضحايا ليخترق صمت الفاجعة، سرعان ما كشفت الأيام عن حجم الكارثة المروعة، تناقلت وسائل الإعلام الرسمية نبأ ارتفاع عدد القتلى إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربعة وخمسين نفسًا بريئة صعدت إلى بارئها، تاركة خلفها آلاف الجرحى الذين بلغ عددهم أربعة آلاف وثمانمائة وخمسين مصابًا يئنون تحت وطأة الألم والفقد، أما المفقودون، فقد بلغ عددهم مائتين وعشرين روحًا تائهة بين الأنقاض، يزيد غيابهم من لوعة القلوب المفجوعة، لم يقتصر الدمار على الأرواح فحسب، بل امتد ليشمل العمران والبنية التحتية، هوت المستشفيات أرضًا، وتسوت التجمعات السكنية بالتراب، ليجد الناجون أنفسهم فجأة بلا مأوى يحميهم من قسوة الطبيعة، وبلا طعام يسد رمقهم، وبلا ماء يروي ظمأهم، وفي خضم هذه المحنة الإنسانية القاهرة، ألقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بظلال قاتمة أخرى على المشهد، حيث كشفت التقارير عن ممارسات مؤلمة يقوم بها المجلس العسكري الحاكم في البلاد، حيث يتم تقليص المساعدات الإنسانية الضرورية التي يحتاجها ضحايا الزلزال في المناطق التي يعتبرها المجلس معارضة لحكمه، وكأن قسوة الطبيعة لم تكن كافية، ليضاف إليها قسوة بشرية تزيد من معاناة المنكوبين، لم تتوقف تجاوزات المجلس العسكري عند هذا الحد، بل ذكرت المفوضية أنها تحقق في ثلاثة وخمسين بلاغًا عن هجمات شنها الجيش على معارضيه منذ وقوع الزلزال، وشملت هذه الهجمات غارات جوية لم تراعِ حرمة المصابين ولا فاجعة المفقودين، وبعد إعلان وقف إطلاق النار في الثاني من أبريل/نيسان، شن الجيش ست عشرة غارة أخرى، في تجاهل صارخ لكل الأعراف والقوانين الإنسانية، وبين أنين الأرض الثكلى وصدى الجور الذي يمزق القلوب، يقف شعب ميانمار في مواجهة محنة مضاعفة، كارثة طبيعية مدمرة، واستغلال بشع للظروف من قبل سلطة لا ترحم، تبقى الأنظار شاخصة نحو هذا البلد المنكوب، وتتعالى الأصوات المطالبة بتقديم العون الإنساني العاجل دون تمييز، وبوقف العنف والانتهاكات التي تزيد من عمق الجراح وتعيق جهود الإغاثة، فهل سيجد هذا الشعب المكلوم من يمد له يد العون الصادقة ويمسح دموعه، أم سيتركه القدر وحيدًا يواجه مصيره المأساوي؟
#أوقفوا الحرب
ولن أزيد،، والسلام ختام.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة