
عبدالله رزق أبوسيمازه
بعد ٣٠ يونيو ١٩٨٩، صعد جيل من الاسلاميين ، المرتبطين بالتغيير الذي احدثه الجيش ، بالأطاحة بالنظام الديموقراطي ، لقيادة الأجهزة الاعلامية ، بما فيها الصحافة ، وتمت احالة جيل المخضرمين من الصحفيين ، وعموم الاعلاميين ، للتقاعد . فقد قامت سلطة الانقلاب بإيقاف الصحف وتعطيل الدستور ، وحل الحكومة الشرعية والبرلمان المنتخب ، ومصادرة الحريات العامة والديموقراطية ، كما هو شأن الانقلابات العسكرية ، عادة ، وابتكرت بيوت الاشباح ، لأقامة حفلات التعذيب . ومنذ مساء الثلاثين من يونيو ، بدأت حملات الاعتقالات ، للمسؤولين في الحكومة الشرعية المحلولة والبرلمان المنتخب وكوادر الأحزاب والنقابيين ، واستطالت ، مع الايام ، لتشمل كل الناشطين وقادة المجتمع المدني ، ولم تستثن الصحفيين . وكانت تلك بداية الأزمة التي ستتردى فيها الصحافة ، بالذات ، ثلاثين خريفا . حيث تشكل واقع سياسي وقانوني ودستوري مناهض لحرية الصحافة وحرية التعبير ، ساهم بدوره في تشكيل ما يمكن تسميته بالتمكين الصحفي . ووفقا لهذا الواقع الجديد اصبحت صحف الجريمة والرياضة والتسلية ، حسب دراسة لمجلس الصحافة والمطبوعات ، تتصدر التوزيع . وفي ذات الوقت ، فان مايساوي ٧٦٪ من المطبوع ، يتم توزيعه في العاصمة ، وتتساوى نسبة العاصمة من التوزيع ، مع نسبة تغطية قضاياها ، مقارنة ببقية أنحاء البلادو، بما يسمح باستنتاج ان الصحف ، اصبحت تشكل امتيازا خاصا بالنخبة الخرطومية .
باقتلاع الدكتاتورعمر البشير بواسطة لجنته الأمنية ، حسب بيانها الاول ، تحت ضغط الانتفاضة الشعبية ، في ١١ ابريل ٢٠١٩، انتهت مرحلة التمكين الاسلاموي في الصحافة ، والذي تم بالقوانين القمعية ، وباحتكار ملكية الصحف ، عبر أعضاء الحزب الحاكم ،الواجهة السياسية للاسلاميين ، وبالتضييق على الصحافة المستقلة ، ومحاربتها .وكذلك بتدخل الأجهزة الأمنية ، بشكل مباشر أو غير مباشر، في عمل الصحافة . إذ ظل جهاز الأمن يفرض رقابته ، القبلية والبعدية ، على الصحف ، وقد يعاقبها ، بالمصادرة او بالايقاف ، وقد يعاقب أيا من العاملين بها ، بمن فيهم رئيس التحرير، بإيقافه من العمل ، ويتجاوز ، في ذلك ، مجلس الصحافة والمطبوعات ،ويتغول على صلاحياته ، فقد كان الأمن اهم ادوات التمكين ، في كل مجال .
.وقد بدأت نهاية عهد التمكين بتواتر انهيار الصحافة الانقاذية ، واحدة بعد اخرى ، واكتمل بتوقف مصادر التمويل والدعم ، الذي كانت تجده من الحكم ، مع سقوط البشير . وكانت هذه الصحف قد حاولت التغلب على تأثيرات الازمة الاقتصادية ، بزيادة سعرها ، في كل حين ، مما جعلها تخرج ، في نهاية المطاف ، من متناول ايدي جمهرة القراء ، الذين تدهورت قدراتهم الشرائية بفعل الأزمة .
ولم تكن السنوات التي تلت سقوط البشير ، التي شهدت ، ايضا ، توقف الصحف المستقلة ، التي ظهرت في ذلك الحين ، غير فترة من الاضطراب ، ومن الصراع السياسي والاجتماعي ، انتهت بالاطاحة بالشريك المدني في السلطة الانتقالية ، بانقلاب الشريك العسكري في 25اكتوبر 2021 ، ليتلوه صراع شريكي الانقلاب ، والذي وصل ذروته في حرب ١٥ ابريل ٢٠٢٣.
لقد عانت الصحافة كثيرا ، في فترة حكم الإسلاميين ، من القيود السياسية والقانونية والامنية ، والتي أسهمت في تشكيلها على النحو الذي عرفت به ، كآلية من آليات التحكم والسيطرة ، إلى أن تفاقمت أزمة النظام ، لاسيما الاقتصادية ، خلال سنواته الأخيرة ، والتي انعكست على الصحف،بحيث بدا التحول إلى البديل الرقمي بمثابة طوف نجاة من معاناة الازمة . وعندما أطلت الحرب بوجهها البشع ، في ١٥ ابريل عام ٢٠٢٣ ، كذروة في الازمة التي انتهت إليها البلاد ، عقب الإطاحة بالبشير، كادت عملية تحول الصحف للصدور اونلاين أن تكتمل ، اذ تزامنت نهاية التمكين مع نهاية عهد الصحافة الورقية وانهيارها . مثلت الحرب الكارثية الجارية ، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع ، و التي اكملت الان ، ( ١٥ ابريل ٢٠٢٥ ) ، عامها الثاني ، وتتهيأ لدخول عام ثالث ، بداية مرحلة من تاريخ السودان ونهاية اخرى . وقد واجهت الصحف التقليدية ، باوضاعها المشار إليها ، خلال هذه الفاصلة الدرامية القاسية ، ، تحديا كبيرا ، وتعرضت لامتحان عسير، وهي تحاول أن تغطي الأحداث التي تجري ، خارج جدرانها ، في الجوار . فخلافا لحروب السودان التاريخية ، اندلعت الحرب الاخيرة ، داخل العاصمة ، مركز البلاد الاقتصادي والإداري والسياسي والامني والاعلامي ، اولا ، قبل أن تنتقل للاقاليم النائية ، عكس النزاعات المسلحة الأخرى ، التي كانت تتحدث في البعيد ، في الجنوب والغرب ، خاصة ، ولا تحدث أثرا كبيرا مباشرا ، على الحياة في العاصمة ، وغيرها من بقية أنحاء البلاد . ولم يمض طويل وقت ، حتى وصلت النيران لمقرات الصحف نفسها ، ولم يعد أمام الصحفيين ، الذين تحملوا لبعض الوقت ، المخاطرة بحياتهم ، وهم يتجولون في الشوارع ، وسط الجنود لينقلوا الحقيقة ويوثقوها ، من خيار غير أن يغادروا ، ويتلمسوا وقائع الحرب المدمرة من خارج الميدان . وقد أحصت منظمة مراسلين بلا حدود ، ٤٠٠ صحفي سوداني في دول الجوار ، بجانب عشرة منابر صحفية ، وصفتها بالمواقع الاخبارية ، وقالت المنظمة في بيان أصدرته منتصف ابريل الماضي،بمناسبة الذكرى الثانية للحرب ، أن الحرب لم توفر الصحفيين ، مشيرة إلى حالات قتل واعتقال في اوساطهم . ودعت المنظمة مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين ، إلى اتخاذ تدابير عاجلة لحماية الصحفيين السودانيين في المنفى ، ومنحهم الأولوية في برامج إعادة التوطين ، كما حثت الدول المضيفة على تسوية أوضاعهم ، وتوفير الظروف المناسبة لتمكينهم من مواصلة عملهم بحرية وأمان . ومن جهتها وثقت نقابة الصحفيين السودانيين ، في بيانات لها ، في وقت سابق ، وقائع تعرض عدد من الصحفيين للخطف والاعتقال وللقتل ، من قبل طرفي الحرب خلال عملهم في تغطية الاحداث.
وفي ظل تداعيات الأزمة السياسية ، طوال الفترة الانتقالية وتدهور بيئة العمل الصحفي ، تواصل الانتقال الى العهد الرقمي تدريجيا ، للتخلص من عبء الكلفة المرهقة للانتاج ، من جهة ، وللتحرر من القيود الأمنية والسياسية والايديولوجية ، من الجهة الأخرى . فأصبح لكل صحيفة من الصحف الورقية المعروفة ، سابقا ، موقع الكتروني ، كما نشأت اخرى خارج البلاد ، بكادر تحريري محدود . وكان للبدايات المبكرة للنشر في الانترنت ، حيث كان لكل جريدة ورقية نسخة الكترونيةو، صورة ، بصيغة بي دي إف ، مساهمة هامة في ولوج المرحلة الجديدة بسهولة . وقد ترافقت النسختان ، الورقية والرقمية ، معا . وكانت الثانية مرآة للاولى ، دون أن تعكس ، بالضرورة ، سمات وخصائص الالكترونية التحريرية ، التي تجعلها تختلف بشكل أو آخر ،عن الصحيفة التقليدية. لعل اهمها ، هو أن الصحافة الرقمية متخطية للحدود السياسية ، وبالتالي ، تخاطب جمهورا اكبر ، متعدد الثقافات والاهتمامات . ويفترض فيها، نظريا ، تغطية الأحداث الهامة في مختلف أنحاء العالم ، تغطية مستقلة ، تتسم بالانفراد والتميز، والتحديث المواكب لتطورات الاحداث، موضوع التغطية ، لكن رغم ازدهار الإصدارات الجديدة الكثيرة ، الا ان بيئة العمل ، خصوصا ، بعد الانقلاب على السلطة الانتقالية ، في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ ، اصبحت ، الى حد كبير ، غير مواتية . فقد دأبت السلطات على التفنن في ابتكار آليات القمع والكبت . فالسلطة التي تحتكر تقديم خدمة الانترنت ، لم تتوان في محاولة السيطرة على فضاء انترنت ، أو تسخير خدمة انترنت كوسيلة إضافية من وسائل التمكين والضبط ، حيث شهدت فترة الحرب استمرار قطع الخدمة عن المواطنين ، مع قطع الكهرباء وخدمات المياه ، والتجويع ، كاسلحة من ترسانة الحرب ، يحدث ذلك في وقت يشهد طوفانا من الشائعات ، ومن الدعاية السوداء والحرب النفسية ، وتفشي الاخبار الكاذبة ، وخطاب الكراهية ، حيث لم يعد ممكنا الحصول على الحقيقة كاملة ، من هذا الطرف أو ذاك من طرفي الحرب أو التحقق من صحتها ، من مصدر مستقل . وخلال هذه الفترة من تطورها ، ومن عمر الحرب ، ظل الملمح الرئيس للصحافة ، حتى الان ، هو تغطية الأحداث من الخارج ، من خارج الميدانو، او خارج القطر، او من جانب أحد طرفي الحرب ، مما يدمغ مثل هذه التغطية ، متى وجدت ، بالتحيز ، او القصور ، او عدم المصداقية ، احيانا. هذا الشكل من التغطية ، والذي يستفيد كثيرا مما ينشره المواطنون عبر السوشال ميديا ، كمصدر معتمد لدى كثير من الصحفيين ، يتناسب مع المرحلة الإلكترونية ،والتي دخلتها ، بعد مغادرتها المرحلة الورقية . ومع ذلك فإن صحف المرحلة ، لاسباب معلومة ، افتقرت إلى التوثيق الالكتروني للأحداث عبر الفيديو ، او حتى الصور الثابتة ، كبعض من أهم أدوات النشر الرقمي ، والذي يستفيد احيانا من التصوير بالموبايل ، ومن مساهمات هواة التصوير بمواقع الأحداث . غير أن هذه الصور الثابتة والمتحركة ، غالبا ما يتم التلاعب بها . ومع الحرية التي تؤمنها فضاءات انترنت ، لاسيما حرية التعبير والصحافة ، الا أنه يبدو ان لا مهرب من مواجهة مشكلة التمويل ، فالصحافة الإلكترونية لا تقدم مخرجا مثاليا من مشكلة التمويل ، التي ظلت تواجهها الصحافة الورقية ، مع ارتفاع تكلفة الإنتاج وقلة عائد المبيعات وشح الاعلانات . اذ أن هذه المشكلة ، مشكلة التسويق والاعلانات ، وهي تطرح نفسها في سياق جديد ، في سبيلها لأن تتفاقم في اطار المنافسة ، غير المسبوقة ، المحتدمة ، بين الصحف في فضاء انترنت. ويرتهن التوزيع أو الانتشار واتساع دائرة التلقي والمقروئية ، بعدد زوار الموقع ، وبالتقدم في مدرج الترتيب الصداري ، باتساع حيازة المواطنين لاجهزة الكمبيوتر والتليفونات الذكية . فيما يرتهن انتاج المادة الصحفية أو المحتوى بأدوات ومهارات متقدمة. وقد تجد الصحيفة نفسها في منافسة مع التلفزيون ، في تغطية وبث الأحداث المباشرة والاخبار الفورية . تحتاج الصحيفة إلى أن تستقطب أموالا عن طريق تنظيم الاشتراكات ، عبر شبكة من القراء تخصهم الصحيفة ببعض المواد ، التي تحجبها من عامة القراء ، بجانب اجتذاب الاعلانات ، وهو يرتبط بمقروئية الصحيفة ، ثم تبرعات جمهرة القراء ، ويعتقد ، في الدوائر الصحفية ، أن هذه المصادر الخاصة تؤسس ضمانة قوية لاستقلالية الصحيفة . ورغم ما يعترض مسيرتها من عثرات ، فقد ازدهرت الصحافة الإلكترونية بشكل كبير، بما يسمح باستنتاج بأنه سيكون لها شأن في المستقبل ، الذي سترفرف فيه رايات السلام ، غير أن الخلاف سيظل قائما حول مكان ومستقبل الصحافة التقليدية . الراجح أنها لن تختفي كليا ، ففي بلدان الغرب المتقدمة في هذا المجال ، وحيث تحولت بعض الصحف للصدور اونلاين ، ليس بفعل أزمة مالية ، وانما استجابة ومواكبة لمعطيات ثورة تكنولوجيا الاتصالات ، فان صحف المقدمة الورقية (المينستريم ) لا زالت توالي الصدور ، و تمارس تأثيرها الملموس ، في تشكيل الرأي العام . وبالتالي ،فان الخط البياني لمسار الصحافة السودانية ، كحالة متفردة ، والذي يمكن تمثيله بمعادلة : (مشرق مغرب مشرق) ، يتطابق لحد بعيد مع تطور البلاد السياسي منذ الاستقلال ، داخل ما اصطلح عليه بالحلقة المفرغة : (انتفاضة شعبية انقلاب عسكري انتفاضة شعبية ) . وكنتيجة للتغيير الشامل الذي أحدثته الحرب ، والذي طال كل أوجه الحياة ، فانه ينتظر أن تتخلق بداية جديدة نوعية للحياة ، في مرحلة ما بعد الحرب . ولأن الصحافة لم تكن استثناء مما طالته الحرب بالتدمير والتخريب ، فانه يتوقع أن تكون صحافة ما بعد الحرب مختلفة جدا ، تعتمد على جيل من الصحفيين مزودين بتجارب وخبرات عميقة .
ومثلما كانت بداية الصحافة السودانية ، مرتبطة بانتشار التعليم الحديث ودخول المطبعة للبلاد ، فان ازدهارها ، في مرحلة ما بعد الحرب ، يرتهن باتساع قاعدة التعليم والحريات الديموقراطية ، ومواكبة التكنولوجيا ، لاسيما تكنولوجيا الاتصالات .
تشكل الفترة بين انتفاضتي ، سبتمبر ٢٠١٣ ، وديسمبر ٢٠١٨، فاصلة تاريخية . اذ شهدت تصاعدا في دور السوشال ميديا و الصحافة الإلكترونية ، مقابل تراجع الصحافة التقليدية ، الورقية ، لذلك بدت مهمة ، إضاءة تلك اللحظة من تطور الصحافة من التقليدية إلى الحداثة الرقمية ، وإثارة النقاش حول ما تستبطنه من قضايا واسئلة.
القاهرة 17 ابريل 2025
المصدر: صحيفة التغيير