شركات الأمن الخاصة.. ذراع الصين العسكرية في أفريقيا

في الوقت الذي تواصل فيه الصين تعزيز حضورها الاقتصادي في أفريقيا، تتزايد الأسئلة حول الدور غير المعلن الذي تلعبه شركات الأمن الخاصة الصينية، والتي باتت تمثل مكوّنا أمنيا موازيا للمصالح الإستراتيجية لبكين في القارة، وسط غموض قانوني وقلق متصاعد من التداعيات السياسية والحقوقية. وبحسب محللين، فإن الوضع القانوني لهذه الشركات يفتقر إلى الوضوح، حيث تعمل خارج رقابة صارمة سواء من الدولة الصينية أو من الدول الأفريقية المضيفة.
ويقول الدكتور حبيب البدوي، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، إن “غياب الإطار التنظيمي القوي” يفتح المجال لانتهاكات محتملة، لاسيما في ظل غياب الشفافية وضعف آليات المحاسبة، مشيراً في بحث نُشر في مجلة الدراسات الأفروآسيوية إلى أن القوانين الصينية لا تُطبّق على هذه الشركات خارج حدود البلاد، ما يجعل الالتزام بالقانون الدولي أمرا إشكاليا، ويعزز الحاجة إلى تنظيم قانوني أكثر صرامة ومساءلة أكبر.
ورغم تصنيفها كـ“شركات خاصة”، إلا أن هذه الكيانات الأمنية تُدار في معظمها من قبل أفراد سابقين في جيش التحرير الشعبي الصيني وقوات الشرطة المسلحة، ما يُكرّس تبعية غير مباشرة للدولة الصينية، ويُجسد مقولة الحزب الشيوعي بأن “الحزب يسيطر على السلاح”، ولو بطرق غير تقليدية. وبات وجود هذه الشركات جزءا من بنية مشاريع مبادرة الحزام والطريق، حيث تُكلّف بتأمين آلاف العمال الصينيين في مواقع البنى التحتية المنتشرة في مختلف أنحاء القارة.
وتشير تقديرات مركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية إلى أن المشاريع المرتبطة بالمبادرة تدرّ ما يزيد عن 50 مليار دولار سنويا للشركات الصينية، وهو ما يفسر حجم التوسع الأمني الموازي لحمايتها. ويرى المحلل السياسي فاليريو فابري أن هذا الانتشار الأمني ليس مجرد إجراء احترازي، بل يمثل “حيلة ذكية” تتيح لبكين وجودا عسكريا غير رسمي، يُجنّبها التصنيفات الاستعمارية المباشرة، ويُمكّنها من ترسيخ نفوذ إستراتيجي عميق في القارة دون إثارة انتباه دولي فوري.
ويكشف الواقع الميداني عن مخاطر متزايدة؛ ففي يوليو 2024، قُتل تسعة مواطنين صينيين في هجوم مسلح استهدف موقع تعدين في محافظة إيتوري بالكونغو الديمقراطية. كما شهدت جمهورية أفريقيا الوسطى حادثة مماثلة في 2023 أودت بحياة تسعة آخرين. وزادت هذه الهجمات من وتيرة اعتماد الصين على الشركات الأمنية الخاصة، لكن ذلك لم يخلُ من تداعيات معقدة. ورغم أن القانون الصيني يمنع هذه الشركات من حمل السلاح، إلا أن كثيرًا منها يلتف على ذلك من خلال التعاون مع ميليشيات محلية أو شركات أمن أفريقية، وهو ما يثير انتقادات واسعة.
وتقول المستشارة الأمنية جاسمين أوبرمان إن هذا التعاون “يُحوّل الشركات الأمنية إلى طرف في النزاعات المحلية، مما يقوّض حيادها، ويهدد استقرار المجتمعات.” وفي دول مثل كينيا، أوغندا، زيمبابوي وزامبيا، سُجلت حوادث إطلاق نار واشتباكات كانت شركات أمن صينية أطرافًا فيها. ويرى الدكتور البدوي أن “هذه الوقائع تثير تساؤلات أخلاقية وقانونية حول التزام تلك الشركات بالمعايير الدولية، وتكشف عن احتمالية تحوّلها إلى أدوات تدخل مباشر.”
◙ الانتشار الأمني ليس مجرد إجراء احترازي، بل يتيح لبكين وجودا عسكريا غير رسمي، يُمكّنها من ترسيخ نفوذ إستراتيجي أعمق
ويُحذّر فابري من أن هذا الاتجاه قد يفضي إلى نشوء ما يشبه “الشركات العسكرية الخاصة”، ما يعني عسكرة كامنة للنشاط الاقتصادي، وتداخلًا بين المصالح التجارية والعسكرية لبكين في القارة الأفريقية. ورغم الخطاب الرسمي الصيني القائم على مبدأ “عدم التدخل”، إلا أن الانتشار المتزايد لشركات الأمن الخاصة يشكّل، وفق محللين، خرقًا لهذا المبدأ، ووسيلة لتعزيز النفوذ السياسي والإستراتيجي للصين تحت غطاء اقتصادي.
ويحذر بعض المحللين من أن هذه الشركات قد تتحول إلى عناصر زعزعة للاستقرار، خاصة إذا دخلت في صراعات محلية أو انتهكت حقوق الإنسان، الأمر الذي يُهدد سيادة الدول الأفريقية ويُعقّد علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى. وتشير تقارير إلى مشاركة عناصر أمن صينيين في النزاع المسلح المستمر في السودان منذ أبريل 2023، وسط أنباء عن وجود أمني صيني في جنوب السودان أيضًا، حيث تتصاعد نذر اندلاع حرب أهلية جديدة، وهو ما يُؤشر إلى أن دور شركات الأمن الصينية ربما تجاوز مجرد “الحماية”، نحو الانخراط شبه العسكري في مناطق النزاع.
ومنذ سنوات، تسعى الصين إلى تعزيز مكانتها الاقتصادية في أفريقيا من خلال مشاريع ضخمة تمتد عبر القارة ضمن إطار مبادرة “الحزام والطريق”. وهذه المبادرة ليست مجرد خطة اقتصادية لتطوير البنية التحتية، بل تشمل أيضًا عنصرًا أمنيًا مكملًا، حيث تعمل الشركات الأمنية الخاصة على تأمين المشاريع الصينية وحماية مصالح بكين في القارة.
ويشير هذا التوسع في الشركات الأمنية الصينية إلى تحول تدريجي في طبيعة التواجد الصيني في أفريقيا، إذ أصبح يشمل بعدا أمنيا غير رسمي يضاف إلى الأنشطة التجارية والاقتصادية. وتجد الصين نفسها مضطرة للاعتماد على هذه الشركات الأمنية الخاصة بشكل متزايد لحماية الأصول الاقتصادية التي تنفذها في أفريقيا. وتشمل هذه الأصول مشاريع بنية تحتية هائلة تشمل بناء الطرق والموانئ والطاقة في العديد من البلدان الأفريقية، بالإضافة إلى مواقع التعدين.
وفي ظل غياب إطار قانوني يحدد حدود هذه الشركات، قد تجد بعض الحكومات الأفريقية نفسها في موضع ضغط، حيث يصبح التأثير الصيني في القرارات السياسية والأمنية أكثر وضوحًا. وعندما تدخل هذه الشركات في نزاعات محلية أو تتعاون مع فصائل مسلحة، فإن ذلك قد يقوض سيادة الدول المضيفة ويزيد من تعقيد العلاقات بين هذه الدول والقوى الدولية الأخرى. ومع تزايد اعتماد الصين على شركات الأمن الخاصة لتأمين مصالحها في أفريقيا، يتعاظم القلق بشأن طبيعة هذا الدور، وتبعاته على الشفافية، وحقوق الإنسان، وسيادة الدول الأفريقية.
وبينما تسعى بكين إلى تجنب الظهور كقوة استعمارية جديدة، فإن الواقع الميداني يشير إلى عسكرة ناعمة، قد يكون لها تأثير عميق على مستقبل الأمن الإقليمي في القارة. ويؤكد مراقبون أن شركات الأمن الصينية الخاصة ستواصل تقديم خدماتها ما دامت بكين تتوسع في استثماراتها على طول مبادرة الحزام والطريق. ومن المتوقع أن تعزز سياسات الخصخصة الصينية إمكانات اكتساب قدر أكبر من المرونة، والقدرة على التكيف مع بيئة التشغيل المستهدفة لهذه الشركات.
ويشير هؤلاء المراقبون إلى أن الشركات الأمنية الخاصة الصينية انتقلت من النموذج البسيط للحراسة داخليّا إلى مزودي أمن دوليين، حيث تؤدي التهديدات الإرهابية، والابتزاز الإجرامي، والعنف السياسي، والزيادة في الميزانيات الأمنية الصينية، دورا بالفعل في إنجاح هذا التحول. وفي الوقت نفسه، فإن قطاع الأمن المحلي كلما أصبح أكثر نضجا وتطورا؛ سوف يدعم زيادة الاحترافية في السوق الصينية للأمن خارجيا.
المصدر: صحيفة الراكوبة