اخبار السودان

شرعنة الانقلاب وتأثيرها على الديموقراطية ٢/٢

د. محمد حمد مفرح

 

يحدثنا التاريخ السياسي للدول التي طبقت نظام الحكم الديموقراطي عن أن الديموقراطية الحقة القائمة على قيم الحرية والعدالة والمساءلة والشفافية في ظل دولة قانون حقيقية عملت على نقل هذه الدول الى فضاءات النهضة والتطور الحقيقيين. كما يؤكد حاضر هذه الدول على ديمومة هذه النهضة وذلك التطور ومضيهما بوتيرة متصاعدة. ليس هذا فحسب بل اصبح البون الحضاري بين الدول الديموقراطية والدول الشمولية او الأوتوقراطية Autocratic States شاسعا، حيث تسنمت الأولى ذروة الحضارة المادية في حين ظلت الثانية قابعة في مربع التخلف.

لذا حققت الأولى لشعوبها الرفاه الاجتماعي Social welfare والنهضة والتطور في كافة مجالات الحياة في حين بقيت الشعوب في الثانية تقاسي الفقر و الجهل والمرض والتخلف العقعد.

وحسبما اشرت في الحلقة الأولى من المقال فانه اذا كانت الدول الديموقراطية غير الاسلامية حريصة على قيم الحرية والعدالة والسلام كممسكات للاستقرار ورفاه الشعوب، فمن باب أولى ان تحرص الدول الاسلامية على هذه القيم. ذلك أن ديننا الاسلامي سبق كل المعتقدات الأرضية الى هذه القيم وحث عليها كضرورات لا بد منها باعتبارها تعمل على تهيئة الظروف للانسان من اجل عبادته لله التي خلقه الله، في الأصل، من اجلها. ومن المعلوم ان العدل يعد اساس الحكم حيث يعلي الكتاب والسنة من قيمة العدل، والذي يؤدي عدم توافره الى خلخلة الحكم وهز اركانه. ولا شك في ان العدل لعب دورا محوريا في تثبيت اركان الحكومات في الحقب الاسلامية المختلفة وخلق الاستقرار المستدام.

وتبعا لذلك فقد كان حري بحكومة الأمر الواقع الحالية De Facto Government برئاسة الفريق البرهان والتي يفترض ان تكون حريصة على القيم المشار إليها انفا والتي تقرها حتى الدول غير المسلمة، كان حري بها أن تحرص على هذه القيم. هذا الأمر مطلوب بشدة اذا تجاوزنا حقيقة أن الحكومة نفسها هي حكومة أمر واقع لا شرعية لها، وتجاوزنا حقيقة أن الوثيقة الدستورية نفسها قد تم تمزيقها او قبرها فور القيام بالانقلاب، واستندنا فقط الى الطلب من الحكومة أن تتراجع وتفارق وضعيتها هذه كي تفسح المجال للتحول الديموقراطي الحقيقي. ومما يجدر ذكره ان الفريق البرهان قام بانقلاب على الحكومة الانتقالية التي كان جزء منها، وذلك بتاريخ ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١م بحجة (تصحيح الاوضاع) كما صرح بذلك. بيد انه قام، عقب انقلابه مباشرة، باعادة الاسلاميين والذين لا يزالون يمسكون بمفاصل الدولة بصورة غالبة ومهيمنة، مع إعادة كل اموالهم وممتلكاتهم التي صادرتها لجنة ازالة التمكين. ومن المعلوم ان هذه اللجنة قد تم تكوينها بعد أن نصت عليها الوثيقة الدستورية المعمول بها خلال الفترة الانتقالية، بل وكان رئيسها هو الفريق ياسر العطا مساعد البرهان الحالي من حيث تراتبية المنصب.

ومما يجدر ذكره ان القيادي الاسلامي بالمؤتمر الشعبي الاستاذ كمال عمر وصف الانقلاب، وقتها، بأنه (انقلاب اسلامي كامل الدسم).

ومن البدهيات السياسية ان (تصحيح الاوضاع)، إذا كان مقصودا لذاته، يجب أن يتم في اطار الحكم القائم نفسه وباليات تتسق مع طبيعته، وذلك وفقا لطبيعة الحكم القائمة على الشفافية والمصلحة الوطنية.

علاوة على ذلك يمكن ان يلجأ الاسلاميون المعنيون، في اطار الحكم القائم، أي قبل الانقلاب، الى المحاكم لتنظر في ما اذا كان فصلهم من وظائفهم ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم تم وفقا للقانون واستنادا الى أسس موضوعية تستند الى الحق ام لا.

وتأسيسا على هذه الحيثيات يتضح جليا أن ما تم يمثل انقلابا على الفترة الانتقالية، الهدف منه قطع الطريق على التحول الديموقراطي. وليس ادل على ذلك من استمرار هذا الحكم القائم على الانقلاب الى يومنا هذا.

وقد قادت التفاعلات السياسية في ظل هذه الحكومة الى الحرب الحالية والتي افرزت تداعيات على اكثر من صعيد. وقد قاد استمرار الحرب وتطاولها واتساع رقعتها الى وضع مأزوم جعل وحدة البلاد نفسها على المحك، ما يتطلب تدارك الوضع بالعقلانية والحكمة اللازمتين.

الا انه، و بدلا عن ذلك، فقد قامت الحكومة مؤخرا بتعديل الوثيقة الدستورية الخاصة بالفترة الانتقالية بغرض تكوين حكومة تكنوقراط، حسب تصريح الفريق البرهان.

وقد ابان اكثر من قانوني عدم قانونية تعديل الوثيقة الدستورية.

ووفقا لهذه التعديلات ستكون هنالك حكومة تأسيسية وحكومة انتقالية يوكل إليها الإعداد لانتخابات تقود لنظام حكم ديموقراطي.

ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن هذا الإجراء، إذا ما قدر له ان يتم، لن يقود الى ديموقراطية حرة ونزيهة كونه يتم في ظل الحكومة الحالية التي قامت بانقلاب لقطع الطريق على الديموقراطية الحقة. ذلك أنه ليس هنالك ضمانات، في ظل الوضع القائم، لاختيار اعضاء الحكومة من التكنوقراط المستقلين تماما والذين سيعملون بكل شفافية ومسؤولية من اجل المصلحة الوطنية فحسب. كما لا توجد ضمانات لعدم بسط الحكومة الحالية نفوذها على هؤلاء التكنوقراط والتأثير عليهم، على نحو او اخر.

وتبعا لذلك ستقود شرعنة Legalization الانقلاب الذي افرز الحكومة القائمة، الى ديموقراطية زائفة لا تعبر عن الارادة الشعبية. وسيترتب على هذا الأمر، دون ريب، عدم استقرار سياسي لا يجعل البلاد تراوح مكانها من حيث التطور فحسب بل ستظل في دوامة من التخلف المقعد.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *