سُولِينْقَا
اَلشَّمْسَ شَاحِبَةٌ وَالْجَمَالُ أَجْهَدَهَا اَلْمَسِيرُ وَالْحَادِي قَدْ مَلَّ اَلْغِنَاءُ وَالْمَادِحَ قَدْ سَئِمَ اَلْمَدِيحُ وَتَكَسَّرَتْ اَلْكَلِمَاتُ فِي حَلْقَةٍ فَمَا عَادَتْ كَاَلَّتِي كَانَتْ بِالْبَارِحَةِ غَضَّهُ طَرِيَّةً وَمُتْرَعَةً بِوَرْدْ اَلْمَعَانِي اَلْمُشْتَاقَةِ لِبَيْتِ اَللَّهِ اَلْحَرَامِ ، فَقَدْ أَشْرَفَتْ وَشَارَفَتْ عَلَى اَلذُّبُولِ وَتَثَاقَلَتْ خُطُوَاتُ اَلْحُرُوفِ لَاهِثَةً مُتْعَبَةً عَلَى حَلْقِ اَلْمَادِحِ فَلَمْ تَعُدْ تُقَدَّرُ وَلَا تَقْوَى عَلَى تَسَلُّقِ اَلْأَحْبَالِ اَلصَّوْتِيَّةِ وَالْقَفْزِ بَيْنَ سَلَالِمِ اَلنَّغَمِ وَشَلَّالَاتِ اَلْأَلْحَانِ اَلْمَرْوِيَّةِ وَالْمُثْقَلَةِ بِالشَّوْقِ فَالْكُلِّ تَسَاوِي فِي اَلسَّأَمِ (يَا مُعَيَّنًا هَوَيْنَ عَلَيْنَا بِزِيَارَةِ اَلْبَلَدِ اَلْحَرَمُ) وَهَذَا خَبِيرُ اَلرِّحْلَةِ وَدَلِيلِهَا قَدْ عَلَتْ وَجْهَ اَلْحَيْرَةِ ، فَقَدْ طَالَ عَلَيْهِ اَلطَّرِيقُ وَتَمُطِّي بِدَاخِلِهِ اَلتَّعَبُ حَتَّى صَارَ يُتَمْتِمُ بِكَلِمَاتٍ خَافِتَةٍ مُحْدِثًا اَلْحَادِي قَائِلاً أَنَا لِي أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ سَنَوَاتٍ أَجِيءُ عَلِي دَرْبِ اَلْأَرْبَعِينْ وَمَعِي صُرَّةُ اَلْحَرَمَيْنِ هَذِهِ وَأَقُودُ وُفُودَ اَلْحُجَّاجِ لِمِصْر فَلَمْ يَطُولَ بِي اَلْمَسِيرُ عَلَى اَلْأَرْبَعِينَ يَوْمًا فَمًا بَال هَذِهِ اَلرِّحْلَةِ قَدْ تَجَاوَزَتْ اَلْخَمْسَةَ وَالْأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَمْ نَكَاد نَلْمَحُ لِمِصْر مُلَمِّحًا وَلَمْ تَتَبَدَّى لَنَا رُسُومِهَا وَكَأَنَّ أَقْدَامَنَا مُسَمَّرَةٌ بِالْأَرْضِ مَشْدُودَةً إِلَيْهَا وَلَكِنْ إِذَا وَاصَلْنَا اَلسَّيْرُ حَتَّى اَلصَّبَاحِ رُبَّمَا نُكَوِّنُ بِذَلِكَ عَلَى بُعْدِ يَوْمِ مِنْهَا وَلَيْلَةٌ وَلَكِنْ قَبْلَ ذَلِكَ دَعْنَا نَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ اَلرَّاحَةِ وَنَتَغَدَّى وَكَأَنَّ اَلْحَادِي كَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ حَدِيثَ اَلتَّوَقُّفِ وَالْغَدَاءِ فَرَفَعَ صَوْتُهُ مُبْتَهِجًا بِتَوَقُّفِ اَلْقَافِلَةِ وَمُعْلِنًا لَهُمْ ذَلِكَ فَأَنَاخُوا لِلْجَمَالِ اَلرَّوَاسِنْ فَتَدَاعَتْ رَسَنًا فَرَسَنًا وَاتَّقَوْا اَلْهَاجِرَةَ بِشُجَيْرَاتِ لَاظْلِيلَة وَلَا تَقِي مِنْ اَللَّهَبِ وَلَكِنَّهَا شَجَرَاتٌ فَحَسْبَ وَانْهَمَكَ اَلْجَمِيعُ فِي إِعْدَادِ اَلطَّعَامِ فَتِلْكَ اِمْرَأَةٌ تَخْرُجُ مِنْ جِرَابِهَا * اَلْأُمُّ تَكْشُو وَحَلِيمَةٌ هُنَاكَ مَشْغُولَةٌ مُنْشَغِلَةٌ بِفَكٍّ * خَرْطُويتَهَا لِتَخْرُج مِنْهَا اَلْخَمِيسَ طُويْرَة فَكَمْ فِيهِ مِنْ اَلسِّحْرِ مُقْتَبَسٍ مُبَيَّنٍ وَفِيهَا كُلُّ مَا أَوْدَعَهُ اَلصَّانِعُ مِنْ إِبْدَاعٍ فِي خِفَّةِ اَلْوَزْنِ وَحَلَاوَةِ اَلطَّعْمِ حَتَّى إِنَّهُ يَكْفِي قَلِيلَهُ اَلرَّهْطُ وَيُغَنِّي اَلْفَصِيلَةَ وَيُكَرِّمُ اَلْعَشِيرَةَ وَيَرْحَمُ اَلْجِيرَةَ وَهَا هِيَ كُلْتُومْ تَخْرُجَ قَلِيلاً مِنْ * اَلْكَشْنَة اَلْمُكْشِنَة بِخَالِصٍ بَصَلْ زَالَنْجِي ، ثُمَّ تَضَعُ قَلِيلاً مِنْ اَلْعَجِينَةِ اَلزُّرْقَةِ فِي قَدَحٍ لِتَرْكُضَ نَاحِيَةَ حُلَّةِ اَلْعَصِيدَةِ فَلَقَدْ فَار اَلْمَاءِ وَمَارْ حَتَّى أَوْشَكَ عَلَى إِطْفَاءِ اَلنَّارِ ثُمَّ تَعُدْ لِتَمْلَأَ يَدَهَا بِحَفْنَةٍ مِنْ اَلدَّقِيقِ ثُمَّ تَبْدَأُ * بَمَلَايقَة اَلْمَدِيدَةَ تَمْهِيدًا لِصُنْعِ اَلْعَصِيدَةِ هَكَذَا اِنْشَغَلَتْ اَلْقَافِلَةُ بِإِعْدَادِ اَلطَّعَامِ
و* اَلْقِرَابْ مُعَلَّقَةً بِالْأَشْجَارِ وَنَسَمَاتِ اَلْهَوَاءِ اَلشَّحِيحَةِ تُدَاعِبُهَا وِيبْتَرْدْ اَلْمَاءُ قَلِيلاً قَلِيلاً . اَلْحَجُّ جَمْرَةَ اَلشَّوْقِ اَلَّتِي لَا تَنْطَفِئُ وَالظَّمَأُ اَلَّذِي لَا يَرْتَوِي مِنْهُ إِلَّا بِمَاءِ زَمْزَمَ فَلَا تَسْتَقِرُّ اَلنُّفُوسُ وَلَا تَهْدَأُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ اَلرَّوْضَةِ اَلشَّرِيفَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلَ اَلصِّلَاتِ وَالسَّلَامِ هِيَ بُغْيَةُ اَلْأَمَانِي وَهَدْأَةِ اَلرُّوحِ اَلْمَحَبَّةِ ، فَفِي كُلِّ عَامٍ تَتَغَبَّرُ اَلْأَقْدَامُ تَقَرُّبًا لِلَّهِ مُكَبِّرَةً مُهَلِّلَةً وَمُلَبِّيَةً (لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ . . . لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ . . . إِنَّ اَلْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكِ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ) وَتَخْضَرّ رِمَالُ اَلْأَرْبَعِينَ وَتُسْقَى بِفَضْل هَذِهِ اَلْأَقْدَامِ اَلْمُتْعَبَةِ اَلْقَاصِدَةِ لِلَّهِ مَاءً وَكَلَأ .. اسْتَمَرَّ أَهْلُ دَارِفَوْرَ عَلَى هذا اَلدَّأْبِ سِنِينَا وَقَوَافِلُهُمْ مُحَمَّلَةٌ بِرِيشِ اَلنَّعَامِ وَسَنِّ اَلْفِيلَ وَالَاصَمَاغْ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ هِشَابْ وَطَلْحَ وَارَتْ وَمِنْ ماِ مَا تَنُوءُ بِحَمْلِهِ اَلْجَمَالِ وَمِصْرَ تَلْقَفُ مَا جَاءُوا بِهِ بَخْسٍ الثَمَنٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةً ويتصنعون بأنهم منها من الزاهدين وَلعل ذَلِكَ مِنْ غَرَائِزِ اَلتُّجَّارِ اَلْمَجْبُولِينَ عَلِي تَطْفِيفْ اَلْكَيْلِ عِنْد اَلْاُكْتِيَالْ وَهُمْ فِي وَزْنِهِمْ يَخْسَرُونَ . . . أُمُّ بَابُهُ كُلُّهَا وَسُوقُهَا تَنْتَظِر قَوَافِلَ دَارِ فَوْرَ فَهِيَ دُوحْة اَلْمَوْسِمَ وَزَهْرَتَهُ . هَا هُوَ أَمِيرُ اَلْحَجِّ قَدْ فَرَغَ مِنْ فَكِّ صُرَّتِهِ وَبَيْعُ مُحْتَوَيَاتِهَا وَشَرَعَ اِلْتَوَى فِي تَحْوِيلِهِ لِمُحَمَّلِ دَارَ فَوْرَ وَتَرَاهُ إِذْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَمْضِي مِنْ دُكَّانِ لِآخِرٍ وَمِنْ بَائِعٍ لِبَائِعِ وَالتُّجَّار يُغَالُونَ فِي سِعْرِ اَلْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَتَسَمُّعِهِمْ يُرَدِّدُونَ لَهُ (وَاَللَّهُ اَلسِّعْرُ دُهْ عُشَّانِ خَاطِرَكَ بَسْ يَا بِيهْ وَعُشَّانِ كُسْوَةَ اَلْكَعْبَةِ رَبَّنَا يُقَسِّمُ لِينًا اَلرِّبْحَ فِي غَيْرِهَا) وَبُعْدُ جُهْدٍ وَنَصْبٍ وَتَعَبٍ شَدِيدٍ فِي اَلْمُجَادَلَةِ ، يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ خُيُوطٍ وَدِيبَاجٍ ثُمَّ يَنْدَلَفْ لِدَكَاكِينِ اَلصَّنَايعِيَّة وَالْخَيَّاطِينَ وَيَبْدَأُ مِشْوَارُ صِنَاعَةِ اَلْكُسْوَةِ وَخِيَاطَتِهَا وَبُعْدِهَا عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا لِلصَّاغَةِ لِتَزَيُّنِهَا وَالصَّاغَة بَارِعُونَ فِي نَقْشِ اَلذَّهَبِ وَامْتِصَاصِ اَلْمَالِ وَلَهُمْ قُدْرَةٌ عَجِيبَةٌ فِي أَخْذِ اَلْأَجْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ثُمَّ يُعَرِّجُ أَمِيرَ اَلْحُجَّاجِ مَرَّةً أُخْرَى لِلسُّوقِ لِيَشْتَرِيَ مُتَطَلَّبَاتٍ * تَكِيَّةُ اَلسُّلْطَانِ بِالْأَرَاضِي اَلْمُقَدَّسَةِ وَمَا يَكْفِيهَا مِنْ مَؤُونَةٍ ثُمَّ تَذْكُرُ وَصِيَّةَ اَلسُّلْطَانِ لَهُ بِأَنْ يُعَمِّقَ اَلْبِئْرَ اَلَّذِي حَفْرُهُ لِسِقَايَةِ اَلْحُجَّاجِ وَضُيُوفِ اَلْبَيْتِ اَلْحَرَامِ * (آبَارُ عَلِي) لَقَدْ أَخَذَ مِنْ اَلسُّوقِ كُلَّ مَا يُعَيِّنُ عَلَى اَلْحَفْرِ وَتَعْمِيقِ اَلْبِئْرِ . . . لَقَدْ تَمَّ تَحْوِيلُ اَلصُّرَّةِ إِلَى مَحْمَلِ اَلْحَرَمَيْنِ اَلشَّرِيفَيْنِ فَقَدْ تَمَّ إِعْدَادُ اَلْكُسْوَةِ وَتَجَهَّزَ اَلْحُجَّاجُ لِلرَّحِيلِ عَنْ مِصْرَ إِلَى مَكَّةَ اَلْمُكَرَّمَةِ وَلَمْ يَدْرِيَ أَحَدًا مِنْهَا بِأَنَّ هَذِهِ هِيَ اَلرِّحْلَةُ اَلْأَخِيرَةُ وَأَنَّ اَلْكُسْوَةَ لَنْ تَعُدْ تَأْتِي مِنْ سَلْطَنَةِ اَلْفَوْرِ وَأَنَّ سُلْطَانَهَا اَلْآنِ يُغَادِرُ عَاصِمَتَهُ مُضْطَرًّا لِيُرَتِّبَ جُنْدَهُ وَالْإِنْجِلِيزَ يَتَدَاعَوْنَ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبِ وَلَمَّا فَصْلِ اَلسُّلْطَانِ مَعَ جُنْدِهِ حُدُودَ اَلْفَاشِرْ وَتَهَافُتِ اَلْمُتَهَافِتِينَ عَلَى قَصْرِهِ وَأَخَذُوا كُلَّ مَا طَالَتْهُ أَيَّدَهُمْ فَخَرَّبُوا اَلْقَصْرَ وَدَمَّرُوهُ شَرَّ تَدْمِيرِ وَالنَّاسِ فِي اَلطُّرُقَاتِ يَتَهَامَسُونَ بِخَوْفٍ مِنْ اَلْمُسْتَقْبَلِ اَلَّذِي لَمْ تُبْنَ مَعَالِمُهُ وَيَحْتَارُونَ فَالْأَنْبَاءُ تُشِيرُ لِدُنُوِّ اَلْإِنْجِلِيزِ مِنْ اَلْفَاشِرْ وَأَنَّهُمْ اَلْآنِ قُرْبَ جَبَلٍ وَإِنَّا أَوْ فِي وَادِي فُشَارٍ وَلَكِنَّ اِسْتِطْلَاعَاتِهِمْ وَطَلَائِعَ قُوَّاتِهِمْ تُعَسْكِرُ بِجَبَلِ قَرِيبَتْ شَرْقَ اَلْفَاشِرْ وَرُبَّمَا تَكُونُ بِدَاخِلِهَا مَعَ اِنْتِصَافِ يَوْمِ اَلْغَدِ .
بَدَأَ بَعْضُ اَلْجَلَّابَةِ يَتَحَدَّثُونَ عَلَنًا عَنْ مَنَاقِبِ اَلْإِنْجِلِيزِ وَيُضِيفُونَ بِأَنَّ اَلْحُكْمَ بِيَدِ اَللَّهِ يُؤْتِيهُ مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اَلسُّلْطَانُ فِي آخِرٍ أَيَّامِهِ قَدْ صَارَ يَسْتَبِدُّ فِي حُكْمِهِ وَالنَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُمْ وَمِنْ قَوْلِهِمْ أَلَيْسَ هَؤُلَاءِ هُمْ جُلَسَاءُ اَلسُّلْطَانُ وَبِطَانَتُهُ وَلَكِنْ اَلزَّمَانَ بِدَالَ غِيَارٍ يُبَدِّلُ اَلْحَدِيدُ وَيُغَيِّرُهُ فَيَصْدَأ فَمَا لِهَؤُلَاءِ يُبَدِّلُونَ وَلَائِهِمْ بِدُونِ فِعْلِ مِنْ اَلزَّمَانِ فَيَصْدَأ وَيَتَكَسَّر بِنَفْسِهِ وَيَتَهَشَّم وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُ شَيْئًا . اَلْغُبَارُ مَثَار وَكَأَنَّهُ خَيْمَةُ اَلْحُزْنِ وَالْحِدَادِ مَفْرُودَةٌ وَمَنْشُورَةٌ بِفِعْلِ حَوَافِرِ اَلْخَيْلِ اَلرَّاكِضَةِ وَالْفُرْسَانِ يَحُثُّونَهَا لِلِانْدِفَاعِ وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ طَيُّ اَلْأَرْضِ وَلَفِّهَا وَالْعَرَقِ يَتَصَبَّبُ مِنْهَا وَمِنْ جِبَاهِ رُكَّابِهَا وَكُلًّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تمنطقْ بِسِلَاحِهِ اَلنَّارِيِّ وَبَنَادِقُ * اَلتَّجْتَجِي يَتَقَدَّمُهُمْ عَلِي دِينَارٍ وَمِنْ خَلَفِهِ خَادِمُهُ عَنْقَابُو بِجُثَّتِهِ اَلضَّخْمَةِ وَطُولِهِ اَلْفَارِعِ كَلِيلٍ اَلْهُمُومِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يَنْجَلِي وَقَدْ بَدَتْ عَلَى وَجْهِهِ عَلَامَاتِ اَلتَّفْكِيرِ اَلْعَمِيقِ وَعُيُونِهِ مُحْدِقَةٌ فِي اَلْأُفُقِ اَلْبَعِيدِ تَبْرُقُ أَحْيَانًا وَتُرْعِدَ وَالْجُنُودُ مِنْ حَوْلِهِ يَتَهَامَسُونَ فَقَدْ كَانَ فِي اَلْجَوِّ شَيْءَ مَا وَعَلَى دِينَارٍ هُوَ اَلْآخَرُ تَدُورُ فِي رَأْسِهِ اَلدَّوَائِرَ وَتَشْغَلُ بَالَهُ مَآلَاتِ اَلْأَحْدَاثِ وَبِسَاطِ اَلْمَلِكِ اَلَّذِي يَسْحَبُ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِ وَعَرْشُهُ اَلْمُتَآكِلُ وَصَوْلَجَانُ مُلْكِهِ يَذُوبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَكَانَ جَيْشُ اَلْإِنْجِلِيزِ هُوَ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي تَأْكُلُ مِنْسَأَةَ مُلْكِهِ فَقْد كَادَ أَنْ يَخِرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَقْضِي عَلَى آيَاتِ مُلْكِهِ وَأَجَّلَ حُكْمُهُ وَكَّلَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لَهُ عُمْرًا وَقَدَرًا . . . اِشْتَدَّتْ حَرَارَةَ اَلْجَوِّ وَتَعِبَتْ اَلْخُيُولُ وَمَا عَادَتْ تَقْوَى عَلَى اَلْمَسِيرِ فَيَقْتَرِبُ عَنْقَابُو مِنْ اَلسُّلْطَانِ قَائِلاً لَهُ سَيِّدِي اَللَّهِ يَنْصُرُكَ دَعْنَا نَرْتَاحُ قَلِيلاً فَالْجَوُّ حَارٌّ جِدًّا اَلْآنَ وَلَا يُسَاعِدُ عَلَى اَلسَّفَرِ وَتُظْهِرُ فِي صَوْتِهِ بَوَادِرَ اَلتَّمَرُّدِ فَكَلِمَاتهَ جَاءَتْ أَقْرَبَ لِلْآمِرِ مِنْهَا لِلطَّلَبِ وَالرَّجَاءِ فَأَمْرِ عَلِي دِينَارٍ بِالتَّوَقُّفِ لِلرَّاحَةِ وَالْقَيْلُولَةِ تُفَرِّقُ اَلْجُنْدَ عَلِي اَلْأَشْجَارَ وَجَلَسَ عَلِي دِينَارِ وَبَعْضِ مُرَافِقِيهِ فِي أُخْرَى وَتَبَدَّى اَلتَّعَبُ وَالْإِرْهَاقُ عَلَيْهِ وَتَمَلُّكِهِ اَلْقَلَقِ وَأَزْعَجَتْهُ تَحَرُّكَاتُ خَادِمِهِ وَجُنُودِهِ بَلْ صَوْتُ عَنْقَابُو وَطَرِيقَةٌ تَكَلَّمَهُ مَعَهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ اَلْغَرِيبَةُ صَب عَلَى جَمْرَةِ قَلَقِهِ وَتَعَبِهِ مَزِيدًا مِنْ اَلْقَلَقِ فَتَرَاهُمْ يَتَجَمَّعُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ يُدَبِّرُونَ أَمْرًا مَا فَيُوَسْوِسُونَ وَيَهْمِسُونَ ، قَدْ حَاوَلَ عَلِي دِينَارِ اَلتَّشَاغُلِ عَنْ هَذِهِ اَلْمَشَاهِدِ فَقَالَ لِرُفَقَائِهِ هَلُمَّ لِنَصْنَع قَهْوَةً اَلضَّحْوِيَّة فَذَهَبَ كُلٌّ وَاحِدٌ يَقُومُ بِعَمَلٍ يُسَاعِدُ فِي صُنْعِ اَلْقَهْوَةِ مِنْهُمْ مِنْ سَارَ فِي جَمْعِ اَلْحَطَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَعَى لِجَلْبِ اَلْمَاءِ وَجَلَسَ أَبُو ذَكَرِيًّا لِوَحْدِهِ مَعَ شُرُودِ ذِهْنِهِ وَأَوْهَامِهِ وَظُنُونِهِ إِلَى أَنَّ أَيْقَظَتْهُ رَائِحَةُ اَلْبُنِّ وَعَبَقِهِ فَأَنْتَبِه وَتَحَرَّكَ مِنْ مَكَانِهِ مُقْتَرِبًا مِنْ رِفَاقِهِ وَجَلَسَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْقِدِ اَلنَّارِ مُتَحَكَرَا وَقُفْطَانَهُ مَنْثُور هُنَا وَبَعْضُهُ اَلْآخَرُ مُلْقًى هُنَاكَ ، دَارَتْ فَنَاجِينَ اَلْقَهْوَةِ فَصَارَ يَحْتَسِي وَلَكِنْ لَمْ يَذُقْ لَهَا طَعْمًا وَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَإِذَا بِجُزْءٍ مِنْ اَلْقُفْطَانِ يَقَعُ عَلَى اَلنَّارِ وَهْمَ عَنْهُ فِي شَغْلِ وَالنَّارِ هِيَ اَلْأُخْرَى جَائِعَةً فَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ مَلَابِسِ اَلسُّلْطَانِ وَقَطْعِ اَلْحَطَبِ فَتَشْتَعِلُ فِيهِ . وَاللَّهَبُ يَنْتَشِرُ فَيُحِسُّ بِهَا عَلِي دِينَارٍ وَيُسْرِعُ فِي إِطْفَائِهَا بِمُسَاعَدَةِ اَلْجَمِيعِ ثُمَّ مَا لَبِثَ إِلَّا يَسِيرًا وَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ صَوْتَ بُوغْ اَلْعَسَاكِرُ يُعْلِنُ لِلْجُنْدِ اَلتَّجَمُّعُ فِي صُفُوفًا اِسْتِعْدَادًا لِلْمَسِيرِ وَالتَّحَرُّكِ فَاجَأَ اَلصَّوْتُ اَلْجَمِيعَ فَقَامَ عَلِي دِينَارٍ عَلَى عَجَلٍ لِيَلْبَسَ نِعَالَهُ فَلَبْسَهَا مَقْلُوبَةٌ وَهُنَا قَالَ لِرِفَاقِهِ إِنَّ مَلِكَةً قَدْ زَالَ فَسَأَلُوهُ لِمَاذَا يَقُولُ هَذَا اَلْقَوْلِ وَأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ بِقُوَّةِ وَعِنْدَمَا يَصِلُوا لِلْجَبَلِ سَيُنَظِّمُونَ اَلصُّفُوفَ وَيُقَاتِلُ اَلْكُفَّارُ . . فَرْدٌ عَلَى دِينَارٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مُنْذُ أَنْ صَارَ مِلْكًا لَمْ تَشْتَعِلْ اَلنَّارُ فِي ثِيَابِهِ قَطُّ وَإِنْ اِشْتَعَلَتْ بِقُرْبِهِ إِلَّا وَانْطَفَأَتْ فَمًا لَهَا اَلْآنِ تَأْكُلُ قُفْطَانَهُ وَثِيَابَهُ ثُمَّ أَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ نِعَالَهُ مَقْلُوبَةٌ أَبَدًا مَهْمَا كَانَتْ اَلظُّرُوفُ وَلَكِنَّهُ اَلْآنَ قَدْ فَعَلَ وَكُلُّ هَذِهِ عَلَامَاتٌ تَدُلُّ عَلَى زَوَالِ حُكْمِهِ وَمُلْكِهِ وَفِي ذَلِكَ قَدْ تَطِيرُ عَلِي دِينَارِ شَرِّ طَيْرِهِ وَتُطِيرَهُ . . . وَالْجُنْدُ مُنْهَمِكُونَ فِي اِجْتِمَاعِهِمْ وَذَلِكَ اَلْجَمْعُ اَلْمُرِيبُ لَمْ يُطِلْ اَلْأَمْرُ كَثِيرًا حَتَّى جَاءَ عَنْقَابُو لِعُلَى دِينَار قَائِلاً لَهُ لَقَدْ اِتَّفَقْنَا جَمِيعُنَا عَلَى أَنْ نَذْهَبَ لِدِيَارِنَا وَقَدْ جِئْتُ لِإِخْبَارِكَ وَوَدَاعَكَ .. قَالَ لَهُ عَلِي دِينَارِ اَللَّهِ يَسْتُرُكَ .
إِنَّ اَلْمَصَائِبَ لَا تَأْتِي فُرَادَى وَمَوَاسِم اَلْحُزْنِ تَأْتِي بَغْتَةِ فَيَذْبُل كُلٌّ أَخْضَرَ وَيَحْتَرِقُ كُلُّ فَرْعِ وَرِيقِ وَيَجْدُبَ كُلّ رُبْعٍ خَصِيبٍ وَيَبْقَى عَلِي دِينَارِ وَحْدَهُ كَالسَّيْفِ مُسْتَلًّا مِنْ غِمْدِهِ فِي طَرِيقِ اَلْمَوْتِ اَلْمَمْدُودِ فَلَا مَا مَضَى مِنْ آفِلٍ اَلْمَلِكُ يَعُودُ وَنِصَالُ اَلْغَدْرِ تِنْتَاشْ قَلْبُهُ نَصْلاً إِثْرً نَصِل وَقَدْ تَجَلَّدَ بِالشَّجَاعَةِ وَتُزَيِّنُ بِالْمَهَابَةِ فَكَانَ هَيْبَةٌ فِي اَلْمَوْتِ عَظِيمًا وَدِثَارًا مِنْ اَلْكِبْرِيَاءِ فَطَعْمُ اَلْمَوْتِ هُوَ نَفْسُ اَلطَّعْمِ فِي اَلْأَمْرَانِ اَلْعَظِيمُ وَالْحَقِيرُ . . . وَيَمْضِي عَنْقَابُو بِجَحْفَلِ اَلْغَدْرِ اَلْأَخِيرِ صَوْبَ دِيَارِهِ إِفْرِيقِيَا اَلْوُسْطَى فَهُوَ مِنْهَا وَمِنْ قَبَائِلَ اَلسَّارَا اَلْمُتَوَاجِدَةَ بَيْنَ إِفْرِيقِيَا اَلْوُسْطَى وَتِشَاد وَلَكِنَّ عَنْقَابُو وَكُلَّ هَذِهِ اَلْقُوَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يُقْنِعُ بِأَنْ يَعُودَ إِلَى اَلدِّيَارِ صِفْرَ اَلْيَدَيْنِ فَرَأَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَى قَبِيلَةِ اَلْفُولَانِي لِسَلْبِ أَبْقَارِهِمْ ثُمَّ اَلْعَوْدَةُ بِهَذِهِ اَلرُّؤُوسِ اَلطَّائِلَةِ وَالْأَمْوَالِ اَلْوَفِيرَةِ عَلَّهَا تُخَفِّف سَنَوَاتِ اَلْعُبُودِيَّةِ وَالْبِعَادِ اَلْقَسْرِيِّ عَنْ أَرْضِ اَلْوَطَنِ فَمِنْ يَرْضَى بِأَنْ يَؤُوبَ صِفْرُ اَلْيَدَيْنِ إِلَى اَلدِّيَارِ بَعْد سَنَوَاتِ اَلْغُرْبَةِ اَلطَّوِيلَةِ َالْمَرَّةِ . . دَارَتْ مَعْرَكَةً عَنِيفَةً مَعَ قَبِيلَةِ اَلْفُولَانِي اِمْتَدَّتْ مِنْ شُرُوقِ اَلشَّمْسِ حَتَّى اَلْمُغَيَّبُ فَمَاتَ مِنْ اَلْجَانِيَيْنِ اَلْعَدَدِ اَلْكَبِيرِ وَلَمَّا لَمْ تَنْكَسِرْ شَوْكَتَهُمْ تَرْكَ عَنْقَابُو هَذِهِ اَلْقَبِيلَةِ حِفَاظًا عَلَى مَا تَبَقَّى مِنْ رِجَالِهِ وَقُفْلُ عَائِدًا لِدِيَارِهِ وَلَمَّا وَصَلَ مَوْطِنُ قَبِيلَةٍ اَلتَّعَايشَة اِسْتَقْبَلَ فِيهَا اِسْتِقْبَالُ اَلْأَبْطَالِ وَنَزَلَ هُوَ وَرِجَالُهُ تَحْتَ ظِلَالِ اَلْأَشْجَارِ اِتِّقَاءً لِحَرِّ اَلْهَاجِرَةِ وَلَفْحِ اَلظَّهِيرَةِ وَكَانَ عَنْقَابُوا مُسْتَظِلًّا بَهْرَازَايَّة ظَلِيلَةً حَمَلَتْ اِسْمَهُ وَمَازَالَتْ حَتَّى اَلْآنَ تَعَرَّفَ بِهَذَا اَلِاسْمِ (شَجَرَةٌ عَنْقَابُو) بِأَرْضِ اَلتَّعَايشَة وَمُنْذُ ذَلِكَ اَلْحِينِ تُسَمَّى اَلنَّاسَ بِاسْمِ عَنْقَابُو إِعْجَابًا بِالسِّلَاحِ اَلنَّارِيِّ فَقَدْ رَأَوْهُ أَوَّلَ مَرَّةِ فَبَهَرَتْهُمْ قُوَّتهَ وَمِنْ يَرَى اَلْجَدِيدُ يُدْهِشُهُ حِينًا ثُمَّ يَتَمَنَّاهُ فَيَطْلُبُهُ وَيَتَقَفَّى أَثَرِهِ بِالتَّقْلِيدِ حَافِرًا بِحَافِرٍ فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ اَلْحَفْرِ اَلْأَثَرِ هُوَ أَنْ تُسَمَّى اَلْقَوْمَ بَعَنْقَابُو . . وَيَظَلّ سُولِينْقَا يَسْأَلَ عَنْ كُسْوَةٍ اَلْحَرَمَيْنِ وَصُرَّتِهَا وَيَسْأَلُ عَنْ آبَارٍ عَلَى دِينَارِ وَتَكِيَّتَهُ هَلْ مَازَالَ فِي اَلنَّاسِ ذِكْرَاهَا وَيَظَلَّ ذَلِكَ اَلْوَادِي اَلْمَهِيبِ يَتَمَرَّدُ وَيَتَمَدَّدُ كُلَّمَا جَاد اَلْخَرِيفِ وَفَاضَ وَيَأْتِي سَعْيًا لِبَوَّابَةِ اَلْقَصْرِ قَصْر عَلَى دِينَارِ مُرَدِّدًا لِلنَّاسِ حِكَايَةَ اَلْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ وَيَبْكِي اَلزَّمَنُ اَلْأَغْبَشْ اَلْأَغْبَرَ وَصَائِحًا فِي تَرْدَادِهِ عَلَى دِينَارِ يَا قُرْصًا تَلَأْلَأَ فِي اَلْغُبَارِ وَيَا سَيْفًا مُسَلَّطًا عَلَى اَلْأَعْدَاءِ بَرَقَ وَنَارَ يَا مِسْبَحَةُ اَلذِّكْرِ وَنَوْبَةِ بِاللَّيْلِ وَأَلَّفَ طَارَ . . هَائِم بِالْعِشْقِ وِضَاجْ سُولِينْقَا.
* اَلْأُمُّ تَكْشُو : هِيَ اَلْمُلُوخِيَّةُ اَلْجَافَّةُ
* اَلْخَرْطُويَّة : هِيَ كِيسٌ مَصْنُوعٌ مِنْ اَلْقُمَاشِ
* اَلْكَشْنَة : هِيَ اَلْبَصَلُ اَلْمَقْلِيُّ بَالَشَرْمُوطْ وَالصَّلْصَلَةُ أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى هُوَ اَلْمَلَّاحْ اَلْجَافِّ
* اَلْمَلَايْقَهْ : هِيَ إِضَافَةُ اَلدَّقِيقِ إِلَى اَلْمَاءِ حَتَّى يُصْبِحَ نَاضِجٌ وَبِقِوَامِ سَمِيك وَمِنْ ثَمَّ عَمَلُ اَلْعَصِيدَةِ
* اَلْقِرَابْ : جَمْعُ قُرْبِهِ وَهِيَ وِعَاءٌ يَحْمِلُ فِيهِ اَلْمَاءُ مَصْنُوعٌ مِنْ اَلْجِلْدِ
* تَكِيَّةٌ عَلَى دِينَارِ قِطْعَةِ أَرْضٍ مَبْنِيَّةٍ اِشْتَرَاهَا عَلَى دِينَارِ وَجَعْلِهَا مَنْزِلاً لِحُجَّاجِ دَارْفُور وَسَكَنًا وَمُضِيفَةً وَيُقَال أَنَّهَا اَلْقُنْصُلِيَّةُ اَلسُّودَانِيَّةُ اَلْحَالِيَّةُ بِجُدَّة .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة