اخبار السودان

سياحة من المتعة في زمن العفن والخراب!

حسن أبو زينب عمر

 

لن أضيف جديدا اذا قلت أن سياحة هادئة في تأريخ الشعر الغنائي في السودان تقودك الى عالم من الجمال والمتعة معجون بالعذوبة .. الكلمات مهذبة والمعاني عفيفة يكسوها الحياء والطهارة .. كان الشعراء رجالا من أندر الفحول .. لازالوا قامات مضيئة سامقة لم تنال من عطائهم الثر رياح التغيير. تزداد الكلمات شموخا وتألقا مع تصاريف الزمان وهل هناك أجمل مما سطره وجدان عبد الرحمن الريح في رائعته (ما رأيت في الكون يا حبيبي أجمل منك) .

تعتبر هذه الأغنية باكورة الأشعار الغنائية للشاعر وكانت في منتصف الثلاثينات

ما رأيت في الكون يا حبيبي أجمل منك

فـي دلالك وتيهك وفي جهالة سنك

من كمالك وظرفك ومن جمالك اظنك

يا حـبيبي نـساء الدنـيا ما ولدنك

راجي عطفك ولطفك وراجي حلمك وحنك

ديما يا مريودي تجدني سائل عنك

يا جميل المنظر كيف وكيف اذمك

سيبني في آلامي وبالعلي ما يهمك

خالي عقلك وقلبك وفاضي فكرك وهمك

المدام المسكر والعسل في فمك

يا حـبيـب الانفـس مـا بتوب مـن حـبك

ان صـليتني بنـارك بـرضي برضي بحبك

مـرة تـيه فـي دلالك ومـرة ارعي محبك

ومـرة خـليك جـاير ومرة خاف من ربك

قلبي ذاب من نارك وصبري ضاع من صدك

هـــل اداري حـــياتي ام اعـالج ودك

نســمة الاســحار مــزاجا نفـحة ندك

وزهـرة الازهـار بسـتانا صفحـة خـدك

السـرور اوقـاتك والمـحـاسن خـمـرك

والزمان خـدامـك وممـتثل لـي امـرك

ان امـرتني بقـبل بالوقـوف فـي جمرك

نحـن والايـام اعـمـارنا يفـدن عمرك

 

(2)

يعود مكان قصيدة (جارو أهلك وجورهم امر) الى حي العرب (أم درمان) وتحديدا زريبة العيش التي كان سوقها يتبرج ويتزين بسرب من الحسان جاء لشراء الذرة وكان السوق مرتع للشعراء وكان المتنفس الوحيد لحي العرضة وهناك تعلق قلب الشاعر الفذ سيد عبدالعزيز (أبو السيد) بصبية تحاشى أهلها عيون الشعراء فسرق منها نظرة خلدها الزمان فنا عبقريا فكتب فيها يقول

جاروا أهلك وجورهم أمر بالبعاد والأمِر الأمَر

في ديارهم حجبوا القمر

حسنو يرمي الزول في وكر شوفتو تسكَر من دون سَكَر

للقلوب يا صاحي أحتكر شيء يخلف خالد الذكر

مفخر الأجيال والدهر حسنه أعجز على ما ظهر

في خدوده الحياء ازدهر والطبيعة تناجي الزهر

تدي منظر جذاب بهر زي نجوم السما في النهر

نوره للبدرين أحتقر البهيج النضر الأغر .

(3)

تقول الرواية ان الشاعر محمد بشير عتيق افتتن بحسناء (أبو السيد) التي اختلفت الروايات عن مكان سكنها فمنهم من يقول انها المسالمة ومنهم من يقول حي العرب ولكنه صمم على رؤيتها وتربص بها حتى حفظ عنوان منزل الموصوفة وذهب يترصد بها وبعد ثلاثون يوما بالتمام والكمال من الصبر والانتظار لمحها تخرج كي ترمي بالنفايات خارج المنزل ورغم انه لم يشبع عينيه من الرؤية (غير الشرعية) سوي نصف دقيقة فقد كان ذلك كافيا لميلاد أحد أعذب الدرر (الاوصفوك) نظما وغناء.

كوكب منزه في علوك

سحرك قريب شخصك بعيد

او كان قريب انواره آخذه بدون سلوك

يبرق ثناك في غيهب الليل الحلوك

أظرف شمايلك زاملوك

وهم اكملوك .. ادبك هبة

فيك موهبة ..شكل الظبا

وطبع الملوك يا جميل

لو أنصفوك

(4)

لكن الأمر يختلف هنا بين محمد بشير وعتيق وبين إبراهيم العبادي فاذا تلصص عتيق لرؤية التي افتتن بها فان العبادي ذهب الى مكان التي سلبت عقله عن ثقة وهي ربوع عزة حيث توجد هنده فيأمر زميله الفنان سائق السيارة الكبير عميد الفن السوداني الحاج محمد أحمد سرور والذي كان يعمل وقتها لدى شركة الفيات سرور بضرب كبد السيارة الى المكان المراد

يا سايق الفيات عج بي وخد سنده

بالدرب التحت تجاه ربوع هنده

(5)

الروايات تختلف حول سبب الرحلة ولكن الكل أجمع على إن أحداثها وقعت بين سنجة وسنار ولكن المؤكد ان الذي استوقفه الجمال الفطري الطبيعي لحسناوات البادية والذي لم تطمسه لوثة المدنية ولا صرعات الموضة وتكنولوجيا الميكأب.

انزل يا سرور وشوف يد القدرة

وشوف حسن البداوة الما لمس بدره

وراد النهر خلوني ما بدرا

كاتلني الصفار ام نضرة الخدرة

وحينما كان موقفه يختلف من موقف بشير عاتق فأقترب من سرب من الفتيات وردن النهر لجلب الماء … وكانت من بينهن هنده. فقال لهن (عطشان ويريد أن يشرب) وربما كان يتصنع ولكن رغم ذلك وقفن ورحبن به الا انهن اعتذرن بعدم وجود اناء ليسقوه به الماء فقالت هنده وكانت اكثرهن جمالا وجرأة. (ما في مشكلة نسقيك بي كفوفنا لا من تروى)

ما نفرن تقول سابق الكلام إلفة

عطشان قلنا ليهن وصحت البلفه

ما فيش كاس قريب قالن بدون كلفه

تشرب بي كفوفنا لما تتكفي ….

(6)

الذي يستوقف هنا أيضا ذلك الغزل الصادق البريء من شعراء سودانيون ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بقصائد لا زالت تحتفظ بجمالها ورونقها وبريقها رغم مرور عشرات السنين عليها في زمن كانت الكلمة المموسقة المدوزنة سيدة الموقف أيا كانت وجهتها .. يؤكد هذا المعنى الواعي الكبير ذلك الاحتشاد غير المسبوق علي حسناء اسمها عزيزة ادم منديل نعاها الناعي قبل أسبوعين حينما غادرت الفانية في القاهرة من كوكبة من شعراء السودان .. فقد كانت من بنات ام درمان (حي المسالمة) وكانت تحمل لقب ملكة جمال السودان في مسابقة جرت عام 1958. اختلفت الروايات حول ديانتها من قائل انها قبطية ومن زاعم انها تنحدر من أصول يهودية ولكن هذا لم يمنع سيلا من المعجبين نظموا فيها القصيد .في حوار لها اعترفت عزيزة ان عائلتها يهودية وأنها دخلت الإسلام وساهمت في بناء الخلاوي بعد أن تحولت لناشطة في أعمال الخير. وكان جدها داؤود تاجرا أتي الى السودان من المغرب والجزائر حاملا معه الحرير والالماس وكان صديقا شخصيا للأمام عبدالرحمن المهدي الذي كان وراء اسلامه وتزويجه من أحد بنات الاشراف.

(7)

وفاء بوفاء واعجابا بأعجاب لم تغادر عزيزة السودان حتى عمر الثمانون حيث طاب بها وأسرتها المقام وكان مواطنو ام درمان نساء ورجالا يحرصون على الترحاب بها والسلام عليها في الشارع في أخريات أيامها ويطلقون علها العمة أو الخالة عزيزة .. وقد اشتهرت بظبية المسالمة وكان الشاعر سيد عبدالعزيز أحد الذين سقطوا في حبائلها فخلدها بقصيدته الذي زادها رونقا وجمالا عميد الفن أحمد المصطفى .

                                      (8)

يا بنت النيل .. النيل

أحب النيل يا جميل

ظبية المسالمة

وفي الخمايل حالمة

وفيك يا ظالمة. يا ظالمة يا ظالمة

تجرحني ليه وأنا كل جراح

لابد يجي يوم ألقاك وارتاح

آه .. أنا من عيونو الساحرة

آه ..أنا من خدوده النايرة

آه ..أنا من ضفايره السادلة

(9)

ثم يتوقف الشاعر لحظة يسرح فيها داخل السودان شمالا وجنوبا حينما كان الوطن بطوله وعرضه لوحة تسلب العقل وبستانا يغري بالراحة والهدوء والسكينة لتكتمل جماليات الصورة

ليك من سحر الجنوب قسماتو

ومن طيب زهر الشمال الشمال نسماتو

أحبه وأحب نوناتو ..نوناتو ال في وجنتاه

(10)

لم يكتفي عبيد عبد الرحمن بظبية المسالمة بل اتبعها (يا مداعب الغصن الرطيب) ثم (أنة المجروح) اذ يقول

يا أنة المجروح يالروح حياتك روح

الحب فيك يا جميل معنى الجمال مشروح

مصرية في السودان بحبي ليك أبوح

يا عنب جنا ين النيل أتمنى منه صبوح

وأنشد فؤادي الضال بين الرياض مذبوح

وأرى الهلال في ظلال تلك الخميلة يلوح

(11)

غني لها أيضا عبيد عبدالرحمن وسرور (أه من جور زماني) ثم (أفكر فيه وأتأمل) وألف فيها عبيد أيضا

حليل زمن الصبا الماضي

وحليل زهر الحياة الزاهر

حليل زمن الحبيب راضي

وحليل زمن الهوى الطاهر

في زفاف ظبية المسالمة لم يكتف عبيد عبدالرحمن الذي تم بحضوره وحضور سيد عبدالغزيز ضمن المعازيم بتلكم الأغنيات بل دفع الى الجمهور بأغنية (أفكر فيه وأتأمل أراه اتجلى وأتجمل .. هلالي الهل وأتكمل ثم أغنية ( يا مداعب الغصن الرطيب في بنانك ازدهت الزهور زادت جمال ونضار وطيب ..

في الروضة غنى العندليب وغنى أناشيد الحبور.

(12)

لم ينتهى التفاف شعراء السودان حول عزيزة فهناك رواية تذهب بأن عبدالرحمن الريح دخل الحلبة رغم انه كان من سكان حي العرب

لي في المسالمة غزال

نافر بغني عليه

جاهل وقلبي قاسي وقلبي طالع ليهو

ان جاه النسيم زي الفرع يتنيه

والثمن الرطيب كذب البقول يجنيهو

أزهار الربيع مازي زهور خديهو

وجذلات الحرير ما لينة زي أيديهو

سالبني نار هواه شال قلبي يلعب بيهو

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *