سوني العروس سبب آخر للعشق
كنا مجموعة من أصدقاء أصفياء ، قررنا الذهاب الى حيث تلكم الملهمة العذبة الشهية .
كان الوقت محبة وصفاء ، وكانت الدنيا لا تزال تهب طعمها الكامل ومعناها القويم.
ظلت عربة العسكر القوية تلك ، تنساب على أرض ندية، ونحن نولي الأرواح شطر الشمال تاركين “نيالا البحير” ليس خلفنا ، بل على ركن قريب في القلب ، فهناك بدأت ملامح قصة عشق جميلة تتخلق داخل الحنايا بينن وبينها ، بدأت للتو بين القلب وذاك الوادى الحبيب.
بدأنا المسير شمالا ، وكانت أهازيج “ود أب قزه” وايقاعته المخضرة لا تزال ممسكة بشرفة الطرب النقى في نفوسنا .
هذي هي دارفور
دار إلفة عجيبة ، ساحة حب إلهي زاهي وكامل المعنى .
أناس معطونون برحيق ختامه أصالة وجمال مطلق في الروح والهيئة ، دار تهبك نفسها دونما عناء ، كرم وزلفى لوجه الله والمحبة ، ولا تملك سوى أن تحني هامة الدم شكرا وعرفانا لهم، إنهم الأهل ، إذا أردنا أن نهب الكلمة معناها الأصيل .
مشوار بين وهاد وهضاب ، تتراءى وكأنها تلوح بأيديها وتغريك الود ، وددت والله لو أن نترجل ونحتضن تلك البقاع الباسمة الى الأعلى كانت السحب تظلل موكب الفرح ذاك ، توفر ظلا ملونا ، معطرا بعبق نسمات ليست كمثيلاتها ، ولا عجب فهي آتية من ربوع تشبعت بأريج سماوي وطيبة أرض ونفوس لا يدانيها سوء .
ثم وفجأة لاحت العروس .
أطلت علينا وهي تتربع على ذرى شامخة ، الإله قد سكب كل ما تبقى من خضرة عليها ووهبها ذلك الحسن العالي .
يا للسحر ويا للعجب ، يا للبهاء السامي .
كان أكثرنا إندهاشا ، ذلك الفنان ، أو مشروع الفنان آنذاك ، والتشكيلي المجيد لاحقا ، صديقنا الحميم “صلاح سليمان بخيت” تقبل الخالق روحه الملونة بأزهى الوان الجمال ، ورحمه ، فقد رأيناه فجأة وهو ينتصب واقفا على ظهر العربة ، واضعا كفيه على رأسه وهو يصيح:
الللللللللللللللللللللللللللللللللله
ودونما شعور منا أيضا ، أخذنا بعبقرية وسحر المكان
أهذي هي أنت يا “سوني”؟
أهكذا دائما يحتوي شرق الأشياء على كل السحر؟
أطلت شمس الظهيرة بوجهها المذهب من بين بعض غيوم، وكأنها تقول
ألم أقل لكم ، ألم أخبركم عن هذه العروس .
وصل الركب ، وقد سبقه هيام ووله معلن، ها قد أتيناك يا “سوني”، ركابنا الشوق والمحبة وكل التقدير والمعزة لك ولأهلك .
نثر الود كما لم يكن من قبل
“عافية”
“سلام”
“عافية”
تبادلنا التحايا وأعلنا محبتنا للناس والمكان ، إشتعل المدى فرحا ، وتسربت الخضرة من حيث هي الى عمق الدواخل ، تؤصل روابط العلاقة وتؤكد رسوخ اليقين بأنا نحن هم وهم نحن ، فمن العسير أن ينسكب كل هذا الإحساس دون مجاملة أو قصد ، أن تنداح مثل هذه المشاعر دونما قصد أو سابق قرار ، إلا أن يكون ما بالدواخل متماثلا ، وإلا أن يكون الحب نابعا من أقصى بحيرات الصدق القابعة داخل النفوس .
“في سوني بى شرق الجبل تشعر كأنك جوه جنة”
هكذا غنى المغني ، وهكذا رددنا نحن معه
قلت لصلاح ، لم لا تجسد لنا هذا الشلال القادم من حدائق القمر يا صلاح
أذكر أن قال لي
هذا الشلال ، وهذه البقعة ، قصيدة ، بل ملحمة عصية على السرد ، وكيف سيتأتى للوحة واحدة أن تحتوي كل هذا السحر الفردوسي النضير؟ .
وقد صدق ، وإيم الجمال قد صدق .
أشياء ومناظر لا تستطيع وصفها مهما أوتيت من سعة في الخيال ، جمال كامل القسمات ، الأرض مطرزة بألوان الزهور والأعشاب التى لا يمكنك مقاومة الخوف من أن تدوس عليها ، وأنت سائر يعترض خطواتك مجرى مياه كوثرية الملامح ، من اين أتت أو الى أين تذهب ، لن تعرف ابدا ، فما عليك سوى أن تغريها السلام والحب وتمضي .
الناس هناك لهم طعم الأرض وطيبها وطيبتها ، لهم شموخ ذلك الجبل وعلو هامته ولهم سمو معناه وأصالة تاريخه
هناك وعلى ذلك الجبل ، قامت الممالك تشرح وتفسر معنى العزة والقوة والأصالة للآخرين ، هناك التحمت السحنات وتمازحت القسمات وعملت الدنيا كيف يكون الصدق وسماحة الأرواح .
وهناك الآن ، يعانى أؤلئك البشر الأشجار لا لشئ سوى أنهم أرادوا أن ينحت إسمهم على خد ذلك الجبل ، ليس إمعانا في شهوة التملك والإستحواذ ، بل تكريسا لإنسانيتهم الفارهة الباذخة .
هناك ، تركنا والله جزءا من الروح ، تطوف وتحي الأهل ، وتركنا قسما من الحلم ، ونرجو الآن أن يزور مضاجع الأطفال وينثر فوق حدائق نومهم ، الأمل والفرح والحلم أن تشرق الشمس وتهب الورد والفراش ، القلم واللوح والكراس ، أن تهديهم لحظة أمن وطمأنينة وسلام ، تحمل بيد سلة مملوءة بخبز المحبة ومحبة الخبز .
فلتسكن هناك يا حلمنا القديم
خذ مكانك .
على ضفاف الجرح والنواح
حدث الأطفال عنا .
إنا قد سئمنا الخوف
ضع غناءك
أمام عيونهم
وبسمة في وسامة الصباح
ولك الله والمحبة يا دارفور
ولنا الخذلان والأسى .
المصدر: صحيفة الراكوبة