سودانيون خياليون
عدت أدراجى إلى السودان. كنت غادرته فى أغسطس الماضى قاصدا تشاد، أنجمينا. استغرقت رحلتى من أمدرمان، سوق القش، إلى أنجمينا أسبوعين. عبرت ديار الكبابيش، الزيادية، وصولا إلى الفاشر. لم ندخل الفاشر. كان ثمة اشتباك عنيف بين الدعم السريع والجيش، نواحي بوابة مليط، وأجزاء من زلط “كتم”..عبرنا تحت خطوط النيران إلى النزلة التى تقودك إلى “كورما”..و “كورما” بلد المذيع النابه أحمد أبكر ضو البيت..عبرنا سلسة جبال “كاورا” وصولا إلى “كبكاببة”..
المهم تلك رحلة طويلة ملهمة، سأحكى عنها ذات يوم..
شايف كيف؟
قضيت ستة أشهر فى تشاد. قررت الذهاب إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان، التى أحب. سأعود برا، كما ذهبت. هذه المرة سأدخل السودان عبر “الجنينة”، عاصمة ولاية غرب دارفور. سأقطع ولايات وسط دارفور، جنوب دارفور، شرق دارفور، وصولا إلى “الرقيبات” الحدودية، التى تبعد حوالى 250 كليومترا، جنوب “الضعين”، حاضرة شرق دارفور. عبرت “بحر العرب” إلى جنوب السودان، وتلك رحلة أخرى، أجمل من سابقتها.
شايف كيف؟
فى الذهاب خروجا من أمدرمان، لم يصادفنى عسكرى واحد من الجيش. وبالطبع، من الشرطة أو جهاز الأمن. كانت “دار الريح”، ديار الكبابيش، تستقبل الخريف. الخيران والأودية مترعة. ينتشر الدعم السريع فى كل ربوع الكبابيش. جبرة الشيخ، رهيد النوبة، زغاوة، سودرى، أب زعيمة، حمرة الشيخ، أم سنطة..الأسواق عامرة وحركة السيارات لا تنقطع..السيارات المنهوبة (غنائم) من الخرطوم متجهة إلى الغرب..والسيارات القادمة من الغرب تحمل عشرات من الشباب فى طريقهم إلى الخرطوم، فزعا أو طمعا.
ينتشر السلاح بشكل لافت وسط شباب الكبابيش..صار السلاح مثل العصا..لا تجد أحدا لا يحمل بندقية.
أشمشم الأخبار..أستعلم..أدون الملاحظات..أستفسر..
ينطبق الأمر على ديار الزيادية..القرى والبلدات التى مررنا بها. أم بطيطيخ، أم هجيليج، سارى، الكومة..الجميع مسلحون، وليس ثمة من سلطات فعلية إلا سلطة الدعم السريع والإدارات الأهلية.
شايف كيف؟
سلخت ستة أشهر فى أنجمينا..تشاد بلد عجيب..أشبه البلاد بالسودان. حتى أن زميلة صحفية سودانية، التقيتها هناك، قالت لى إنها تشعر أن تشاد هى “غرب غرب دارفور”..
فى طريق عودتى لا شيئ تغير. الحدود يحرسها الدعم السريع. كان ثمة جيش بالطبع هرب إلى تشاد، وسلم نفسه. السلطات التشادية رحلت ما يقارب التسعمائة ضابط وجندى إلى بورتسودان. قضيت ليلة فى الجنينة. والصباح ركبت “شريحة” إلى نيالا. ههنا أهلى وعشيرتى ومسقط رأسى. قضيت ليلتين ويوما..ما يقارب العشرين أسرة من أهلنا ذهبت إلى ليبيا…وسط المدينة مشلول..تنعدم الكهرباء وشبكات الاتصال..لكن الأسواق الفرعية تعمل..والحركة نشطة..ثم يممت صوب الضعين..فالحدود..
شايف كيف؟
البضائع تأتى من كل مكان..من ليبيا، مصر، الكاميرون ونيجيريا عبر تشاد، من كينيا ويوغندا عبر جنوب السودان..لا شيئ منعدم..كل شيئ متوفر فى الجغرافيا الفسيحة التى لا تقع تحت سيطرة الجيش.
فى جوبا، كما فى أنجمينا…ستلاحظ أن السودانيين جاليات ضخمة. وكما تجدهم فى مدن مثل ( أدرى، أبشى، أم حجر، منقو) فى طريقك إلى أنجمينا، ستجدهم بكثرة فى (أويل، واو، رومبيك، يرول )، وغيرها فى طريقك إلى جوبا. حتى لتسأل نفسك : من بقى فى السودان؟
فى أحاديث مع السودانيين فى ليبيا، يقولون لك إن أعدادهم صارت مهولة. ومثلهم فى يوغندا، اثيوبيا، وغيرها..
حسنا…
طوال ذلك التجوال يزحمنى سؤال : عن أى “سودان” وعن أى “حكومة” يتحدث قادة الجيش وسياسيو المؤتمر الوطنى؟ ثمة أربعة دول من دول الجوار لا يوجد فيها فرد من الجيش أو الشرطة أو الأمن ليسألك ” من أنت وإلى أين تذهب؟”، إلا نقطتين مع جنوب السودان..لكن الشطر الأطول من حدودك مع جنوب السودان يسيطر عليها الدعم السريع…وكامل حدودك مع ليبيا، تشاد وأفريقيا الوسطى..
شايف كيف؟
ما هى الدولة، إذن؟
تستطيع أن تبلع حبوب “الغيبوبة” وتمشى إلى صفحتك فى الفيسبوك أو ما شئت من وسائط وتحدثنا عن (السودان)..أن تكتب، مثلا، (السودان يغلق حدوده مع تشاد). مثلى سينفجر ضاحكا، كما أفعل حين أجد شخصا كتب ” الجيش يقطع خطوط إمداد المليشيا الغربية)..أو ” السودان قادر على تلقين تشاد درسا”..
قد تأخذ جرعة زائدة من حبوب “الغيبوبة”، فتكتب كما فعل أستاذنا عادل الباز مقالا طويلا ملؤه شفقة عن ” كيف تعيش مدن الغرب فى ظل سيطرة الأوباش عليها”، ناعيا غياب الصحفيين وكدا..
شايف كيف؟
سيتحدث الكثيرون تحت تأثير حبوب الغيبوبة عن “سودان متخيل”..عن “شعب سودانى” فى حدود أهله وعشيرته، وربما مدينته..وهو يظن أنه بالفعل يمثل (السودان والشعب السودانى)..
هذه “السودانات” لم تفرزها الحرب الدائرة الآن. بل هى “سودانات” قديمة منذ أن خلق الله السودان..لم تجتمع كلها فى قلب وعقل رجل أو امرأة..ربما وهب الله القليلين قلوبا رأت وعرفت وأحبت هذه “السودانات”..لكن الغالبية العظمى تتحدث تحت تأثير الغيبوبة..لذلك ستستمر الحرب، حرب الرؤى، كما أسماها د. فرانسيس دينق.
ستستمر الحرب، إذن…
لأن ضابط الجيش فى كبرى كوستى، يضرب مهندسا شابا، ويجبره على العودة من حيث أتى لأنه (يشتبه فيه)…ولأن الصحفيين يكتبون (الطيران الحربى يدمر مخازن وارتكازات للمليشيا فى حمرة الشيخ، جبرة الشيخ، نيالا، الفاشر، الجنينة، …الخ)، دون أن يساورهم شك فى المعلومة، أو أن يتحرون عنها…لأنها من “مصدر موثوق”..فى الوقت الذى يكون طيران الجيش قد أزهق أرواح مدنيين ودمر منازلهم، دون أن يصيب هدفا عسكريا واحدا..
حين تكون مشغولا بأن (المليشيا ترتكب مجزرة جديدة فى الجزيرة)…أو أن أفرادا منها أرادوا أن يفتشوا الملابس الداخلية لنساء قريبات لعبد الوهاب الأفندي…الدكتور والأكاديمى والمغترب القطرى، فإنك لن تحصل على (الصورة الكلية)..
لم تقم الحرب للتفتيش داخل (الملابس الداخلية) لقريباتك..ولن تعى الدرس أبدا وأنت مهووس بما فقدته من سيارة، أثاث، صور وذكريات، جلسات للأنس..أو حتى دولارات كنت تدخرها لليوم الأسود..أو ذهب زوجتك…
لم تقم الحرب ليثبت شخص أنه “أرجل” من الآخر…
شايف كيف؟
ستستمر الحرب، إذن، لأننا لم نتعلم درس الحرب..
لا ينبغى أن تخوض حربا وتخرج منها بلا وعى جديد..ما فائدة الحرب؟
ستستمر الحرب لأن هناك معرفة جوهرية ينبغى توطيدها لدى القادمين…لا مجرد مباراة هلال مريخ، ينفض الاستاد بعدها…ينبغى ألا يخوض ابنى وابنك..حفيدى وحفيدك حربا أخرى، لأن لكل واحد منهم ” سودان محدد فى رأسه” ينبغى أن يسود…
شايف كيف؟
ستستمر الحرب ببساطة لأننا ما زلنا نجهل بعضنا ونجهل بلادنا ونجهل محيطنا…
ستستمر الحرب لأننا خياليون…
جهلة، متشدقون، أغبياء…
سنخوض فى حرب إلى أن تنتهى، ثم نشعل أخرى..
وهكذا..كنا نفعل ذلك منذ زمن بعيد…
ملحوظة:
المصدر: صحيفة الراكوبة