اخبار السودان

سوداننا القادم … عملاق تنهض روحه من أعماق التاري

حسن عبد الرضي الشيخ

 

في لحظة من الصدق، وأمام ضمير الوطن، لا بد لنا أن نتوقف عن ترديد الأوهام، وأن نعيد البصر كرتين، ونعيد النظر في الواقع الذي نعيشه، وفي الآفاق التي يمكن أن نبلغها، متى ما صدق العزم وخلصت النوايا.

 

نتحدث عن “الخرطوم” على أنها مدينة، بل وعاصمة، وهي في حقيقتها وللأسف لا تستحق حتى وصف “قرية”. فأين الصرف الصحي؟ وأين شبكة الطرق؟ أين محطات المياه؟ أين الكهرباء والساحات العامة؟ وأين شبكات الاتصال التي أصبحت عصب الحياة؟! الخرطوم اليوم ليست سوى كومة من الخراب تتنكر في ثياب الماضي، بينما الحاضر يئنّ، والمستقبل معلق على مشجب الخيبة.

 

وفي المقابل، زرنا في عيد الفطر المبارك منطقة زراعية مصرية تدعى “أوسيم”، وهناك، في قلب الريف، وجدنا ما يعجز اللسان عن وصفه: عمارات شاهقة بين الحقول، حدائق وملاعب، طرق ممهدة، تنظيم دقيق، حياة زاخرة بالجمال والنظام. سألني ابني محمد، وهو مندهش: “يا بابا، دي زي مدني؟” فأجبته : “لا يا ولدي، دي زي السدرات أو ود المنسي!” ثم سألت صاحبة البيت هناك : “هل هذه مدينة؟” فأجابتني في هدوء : “نحن في بادية!”… يا للعجب، إن كانت هذه بادية، فماذا نسمي ما نحن فيه؟!

 

هل لنا أن نعيد النظر قبل أن نفكر في عودة الموظفين والعمال إلى تلك الخرابات التي نسميها مدن؟ هل لنا أن نستلهم تجربة الأشقاء المصريين، الذين ورغم قلة الموارد مقارنة بنا، استطاعوا أن يشيدوا بنية تحتية تجعل من أبسط مناطقهم أكثر رقياً من عاصمتنا المنهكة؟!

 

نحن نمتلك كل شيء : الماء، والشمس، والهواء، والإنسان الذكي، والأراضي البكر، والمعادن الثمينة، والتاريخ العريق، والثروة الحيوانية، والزراعة المتنوعة، والمناخات المتعددة. نمتلك ما يجعل من السودان جنة حقيقية على هذه الأرض، لا مجازاً شعرياً، بل واقعاً ملموساً ممكناً.

 

ولا ننسى إرثنا الروحي والأخلاقي العظيم، هذا الإرث الذي يضرب بجذوره في عمق الزمان والمكان. ففي أرضنا خُلق الإنسان، ومنها بدأت ديانات التوحيد. هنا عاش لقمان الحكيم، وهنا سار الخضر، ومنها جاءت أمنا هاجر جدة الأنبياء. هنا عاش الأولياء والمشايخ، وهنا بزغ مفكرونا الأفذاذ الذين أناروا دروب الفكر في العالم. سودانيون ساهموا في نهضة أوروبا، وفي إعمار الخليج، وحكموا دولاً في أمريكا الجنوبية، وشاركوا في حروب التحرير في آسيا وإفريقيا.

 

نعم، نحن شعب الشمس والتاريخ والمستقبل. شعبٌ إذا صدق مع نفسه، لن تقوم له قائمة إلا في العُلا. ولن يكون السودان القادم إلا عملاقاً، لا يحاكي العالم، بل يُلهمه.

 

إذن فلنبدأ…

فلنبدأ بصدق النوايا، وبالاعتراف بأن التحديات عظيمة، لكننا أعظم. فلنترك التبرير ونمسك بزمام الفعل. نعيد النظر في التعليم، ونصلح البنية التحتية، ونعيد ترتيب أولوياتنا، لا لمجرد العودة إلى ما كان، بل لبناء ما يجب أن يكون.

 

فلنبدأ بالتخطيط كما يخطط الناجحون، وننظر إلى العالم لا بانبهار، بل بثقة، لأننا جزء من صناعته. ولنعلم أن الشعوب التي تقدمت لم يكن لها من الثروات مثل ما لنا، لكنها أحسنت استخدام القليل، فصنعت به المعجزات.

 

سوداننا لا يحتاج معجزة، فقط يحتاج أن نؤمن به.

فليكن إيماننا بوطننا هو الشرارة التي تضيء درب النهوض.

 

سوداننا القادم … ليس حلماً، بل وعدٌ حان وقت الوفاء به.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *