إبراهيم برسي

 

إبراهيم برسي

من بين كل رموز الانهيار السوداني، لا شيء يُجسّد المفارقة مثل أن يُصبح السكر وهو أبسط ما يمكن أن تنتجه أرض عُرفت بسلة غذاء العالم سلعة نادرة، ومستوردة، ومدعومة. وأن يحدث هذا في بلدٍ يُفترض أن أرضه تُنبت القصب كما تُنبت الغضب.في ظل هذا الانهيار، أعلنت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان صفقة شراكة مع مستثمر سعودي “يُعتقد أنه الشيخ سليمان الراجحي أو شركة زراعية تابعة له” بنسبة 50% لكل طرف في ملكية وتشغيل مصانع السكر الحكومية، عبر تأسيس شركة مشتركة جديدة. يدخل فيها السودان بالأصول والأرض، والمستثمر يدخل بالتمويل والتكنولوجيا.لكن الأدهى في الأمر أن العقد لم يُعرض على البرلمان “الذي لا وجود له أصلًا في ظل الحكم العسكري”، ولم تُنشر تفاصيله في أي منصة رسمية. لا نعرف مدة الامتياز، ولا شروط فض الشراكة، ولا التزامات الشريك نحو السوق المحلي. ما نعرفه فقط أن حكومة بورتسودان تحت ضغط العجز، والشريك تحت إغراء التملك، وكلاهما صامت.في ذات الوقت الذي يُعلن فيه السودان عن شراكة إنتاجية مع مستثمر سعودي، يُوقّع اتفاقًا لاستيراد السكر من السعودية التي لا تزرع قصب السكر، ولا تُعرف كدولة مُصدّرة لهذه السلعة، ومع ذلك يستورد منها السودان شحنات ضخمة “تُقدّر بعشرات آلاف الأطنان” دون أن يُكشف عن الأسعار أو الشروط أو الشركات الوسيطة. وهنا تنشأ المفارقة المريرة: السودان يستورد السكر من شريك يشاركه مصانع السكر داخل أراضيه. بل هناك احتمال حقيقي أن يكون السكر المستورد، بطريقة ما، مُنتجًا من القصب السوداني نفسه في مصنع يملكه السودان والسعودية معًا. وبينما يدفع الشعب بالدولار ثمن ما أنتجته أرضه، تتضخم حسابات المستوردين والوسطاء. ولا أحد يجرؤ على السؤال.ولعل المفارقة هنا ليست مجرد خلل في الحسابات، بل انكشاف تام لمعادلة الغلبة: أن تزرع وتملك، ثم تُسلب باسم الاستثمار والتحديث.وفي هذا السياق، تبدو كلمات كارل بولاني صادمة في دقتها حين قال:“حين تُسلِّم الدولة وظائفها الاقتصادية لقوى السوق وحدها، فإنك لا تقيم نظامًا طبيعيًا، بل فوضى مؤسساتية تمارس استبدادها باسم التوازن.”فالمشهد السوداني الحالي يُظهر السوق متحدثًا باسم الوطن، والدولة صامتة كالخادم، والمواطن يدفع ثمن المسرحية كاملة.لكن القصة الأغرب ليست في المستثمر السعودي، بل في من يُدير هذه المصانع حاليًا باسم الشعب. مدير شركة السكر السودانية، رجل ذو وجه هادئ ولغة بيروقراطية، أُقيل بعد الثورة بتوصية من لجنة إزالة التمكين، بتهمة “الارتباط بشبكة فساد إداري وولاء للنظام السابق”، ثم أعيد تعيينه بعد انقلاب 25 أكتوبر. في فترته، استمرت حالة المصانع في التدهور، واستمرت الشركة في إصدار قرارات ارتجالية، أبرزها منح عقود توريد وتوزيع لتجار معروفين بقربهم من السلطة. الشبهات كانت تلاحق أداءه، ولا يوجد ما يشير إلى وجود تحقيقات جدية أو محاسبة، بل العكس: كلما اشتدت الشبهات، ازداد الرجل رسوخًا في منصبه.الرجل، واسمه يوسف عبد الله بحسب أكثر من مصدر رسمي، يُقال إنه كان مقربًا من بدر الدين محمود وزير المالية في نظام البشير، وإنه أحد الكوادر الفنية التي تم “تحنيطها” داخل الشركة لعقود بفضل دعم جهاز الأمن والمخابرات. عاد إلى المنصب بعد أن تدخل جبريل إبراهيم وزير المالية الحالي والذي اختاره بعد توصية من أحد رجال الأعمال الإسلاميين المعروفين بـ”صديق المستثمرين”. في التوقيت ذاته الذي أُعلن فيه عن الشراكة مع المستثمر السعودي، بدأت شحنات سكر مكرّر تصل من المملكة، بأسعار لم تُعلن، وبعقود لم تُوقّع علنًا. من الذي وقّع؟ وكيف؟ ولماذا؟ لا أحد يعرف. لكن ما يُقال في أوساط قريبة من الميناء، أن شركة “الضياء للاستيراد والتصدير” المملوكة لرجل أعمال معروف باسم أحمد حسين الطيب وفق ما يتردد في الأوساط هي من أدارت العملية، وهي شركة ظهرت فجأة عام 2021 برأسمال صغير، ثم تضاعف رأسمالها خمس مرات بعد أشهر من انقلاب البرهان.وما لا يُقال رسميًا، لكن يتردد همسًا، أن السكر الذي نستورده من السعودية ربما يكون، حرفيًا، سكرًا أنتج من قصب زُرع في السودان، في أراضٍ نملكها، بأيدينا، ثم تم تحويله إلى منتج سعودي عبر شركات شريكة، ليعود إلينا مغلفًا بشعار “سكر المدينة”. باختصار: نحن نزرع، هم يُعبئون، ونحن نشتري. هل يُعقل ذلك؟ في منطق الفساد السوداني، نعم. تمامًا كما نُصدر الذهب خامًا ونشتريه مجوهرات، نصدر السكر خامًا ونستورده في أكياس شفافة مكتوب عليها “بركة”.أما من المستفيد؟ فالجواب بسيط: ليس الدولة، ولا المواطن، ولا المزارع. بل شبكة موزعة بين بورتسودان والرياض، تبدأ من المدير المُعاد، وتمر بوزير المالية، ولا تنتهي عند رجل الأعمال الإخواني المقيم في جدة، وتنفتح لتشمل شركات واجهة تابعة لبعض ضباط الجيش وأبنائهم. أسماء مثل عبد العظيم برير، أحمد الماحي، وليد فضل الله تتكرر كثيرًا في ملفات السكر، وكلهم مقربون من الدوائر التي تعيد إنتاج نفوذ الجبهة الإسلامية داخل مؤسسات الدولة باسم الاقتصاد، كما كانت تُعيد إنتاج نفسها قديمًا باسم التمكين.من الطبيعي إذن أن لا نعرف السعر الحقيقي للصفقة، ولا حجم الأرباح، ولا كم سيُخصص للسوق المحلي من السكر الذي يُنتَج، ولا ما إذا كانت المصانع ستُشغّل السودانيين أو تُستبدل بعمالة أجنبية، كما حدث في مشاريع سابقة. ما نعرفه فقط أن السكر أصبح تجارة سياسية، وأن الكيلوغرام الواحد يحوي في طياته سيرة “صفقة”، و”واسطة”، و”ختم إدارة”، و”خيانة صغيرة موقّعة بحبر حكومة الأمل ”.وإذا كانت السيادة الوطنية تقاس بنسبة تَحكُّمك في غذائك، فإن شراكة الخمسين في المئة هذه لا تُسمى شراكة، بل قسمة ضيزى. إذ لا يمكنك أن تكون شريكًا في شيء لا تتحكم فيه، ولا تعرف كيف يُدار. والأدهى أنك في ذات اللحظة تستورده بسعر أعلى. في بلد يُنتج السكر ويستورده، يشترك في مصانع مع شركاء أجانب ثم يشتري منهم منتجه، لا يمكن الحديث عن أزمة سكر فقط، بل عن أزمة دولة.أحد أعضاء الوفد هو رجل سوداني مقيم في جدة، يُعتقد أن له علاقة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، وبأذرع المال العسكري، وقد ظهر في أكثر من اجتماع غير رسمي بصفة “منسق علاقات تجارية”، دون أن يكون له أي صفة حكومية معلنة. يشير البعض إلى اسمه الأول: نصر الدين، ويُقال إن له علاقات مع شركة أمنية سعودية لها مصالح في السودان منذ 2010. هل هو مجرد وسيط؟ أم “الحلقة الناقلة” بين المشروع الإسلامي القديم ومشروعات الخصخصة الجديدة؟ في كل الحالات، هو لم يكن هناك عبثًا.ومع ذلك، يظل السؤال الأخير معلقًا في فراغ السيادة:ما معنى أن تُبرم الدولة شراكة، وهي لا تملك قرار الإنتاج، ولا قرار التوزيع، ولا حتى قرار الشفافية؟ما جدوى أن تتقاسم الحصص مع مستثمر، وأنت لا تملك سوى شبح مصنع، وختم باهت على عقد لم يُقرأ؟في ظل هذا الفراغ الهائل من أدوات الرقابة والمحاسبة، تصبح الشراكة كلمةً براقة في نشرة الأخبار، لا أكثر.تمامًا كما كتب تودوروف:“في غياب الدولة، تُصبح الكلمات واجهةً خادعة لأفعال لا يمكن محاسبتها.”وهكذا، لا تنتهي الحكاية عند السكر، بل تبدأ منه. وما خفي أعظم

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.