حسن عبد الرضي
حين يخرج علينا الجنرال “الحلمان” ليعلن “النصر”، لا بد أن نفتح أعيننا على حقيقة لا تقبل التجميل: ما حدث في الفاشر لم يكن نصراً بقدر ما كان موتًا مُدبَّراً وعارًا لا يُمحى. المدينة التي حوصرت لأشهر، والمقاتلون الذين تُركوا يتهاوون في مرمى القناصة، دون أن تُقدَّم لهم خطة إنقاذ واقعية كل هذا يفضح أكاذيب من يصرخون بالنصر، بينما يشاهدون الناس يُبادون. تقارير موثقة تؤكد انسحاب الجيش واحتلال الفاشر خلال أواخر أكتوبر ٢٠٢٥، وتلقي ظلالاً قاتمة على ادعاءات القيادة.
لماذا لم تنسحب القوات قبل سنة ونصف؟ ولماذا تُقاس الأرواح بمزاج القادة؟
المواطنون يسألون سؤالًا بسيطًا وعاقلًا: لماذا لم تُعلن قيادة الجيش، منذ وقت طويل، عن تفاهمات أو انسحاب مشرف يحفظ الأرواح؟ لماذا استمر التكتيك بالمراوغة والوعود الفارغة، بينما يزداد حصار المدينة ونقص الغذاء والدواء؟ بدلاً من حماية الناس أو التحاور الفوري لتفادي المجازر، مارس بعض القادة أو تحالفاتهم الإقليمية لعبة إيهام الجمهور بالقدرة على التحرير، بينما كانوا في الواقع يضغطون على السكان، ويحوّلونهم إلى دروع بشرية لأهداف ليست وطنية، بل استراتيجية وسياسية. التقارير الصحفية ومنظمات الإغاثة أشارت إلى حصار طويل ومعاناة إنسانية هائلة قبل سقوط المدينة.
الاتهام الصريح: من قتل مقاتلي الفاشر ومن دفعهم إلى المحرقة؟
ثمرة السياسة الفارغة واضحة: مقاتلون كانوا يشكِّلون أملًا لتجار الحرب العبثية أُركبوا على سفينة الهلاك. في سياق الحرب المعقدة، تصاعدت اتهامات بأن جهات إقليمية استغلت صراع الفاشر لتحقيق مكاسب على حساب الدم السوداني. ما حصل داخل الفاشر من ضربات جوية، هجمات على مخيمات وبيوت، واستهداف مستشفيات ومساجد، لا يمكن تفسيره بــ«نكسات تكتيكية» فقط؛ بل يعكس فشل إدارة الأزمة وإصرارًا على استمرار القتال حتى النهاية على حساب أرواح البشر. تقارير عن ضربات على مخيمات النازحين ومساجد ومشاهد قتل جماعي تم توثيقها خلال الشهور الماضية.
التفاوض لم يكن ضعفًا كان سبيلًا لإنقاذ الأرواح
القول بأن “التفاوض = استسلام” هي مفارقة قاتلة، حين يكون منظورنا إنسانيًا. التفاوض من أجل إخراج المقاتلين المدنيين، أو تبادل مناطق مقابل حياة البشر، ليس خيانةً للوطن، بل مسؤولية أخلاقية وسياسية للحفاظ على البلاد من نزيف لا نهاية له. كان بالإمكان وعلى مدى سنة ونصف الضغط دبلوماسيًا وإقليميًا لإجبار سحب آمن أو إتاحة ممرات إنسانية، لكن تغيُّب الإرادة السياسية وغياب سياسة إنقاذ حقيقية أديا إلى الكارثة. تقارير خبيرة تؤكد أن غياب الدعم الجوي أو الإمدادات أدى إلى انهيار الدفاعات تدريجيًا قبل السقوط النهائي.
ثالوث الجريمة: تحالفات أدت إلى إبادة ميدانية
لست أتهاون بالكلمات حين أقول إن هناك ثالثا يجب أن يُسأل: سياسات عسكرية فاشلة، تحالفات إقليمية ومصالح خارجية، واستغلال المآسي سياسياً وإعلامياً. هذه العناصر مجتمعة أنتجت مشهداً مُرّيعا من الإبادة المنهجية في بعض المناطق. ليست القضية فقط من يحارب من؛ بل من الذي اختار أن يضع خيار «الشهرة العسكرية» فوق واجب حماية المواطن. تقارير دولية وحالات ميدانية تُظهر أن التكتيكات التي اتُبعت لم تكن دائمًا تصب في مصلحة حماية السكان.
رسالة للمتحكمين: التوقف الآن ليس ضعفًا بل إنقاذ لبلد كله
لا شيء يبرر استمرار سكب الدماء. إن الاستجابة الحقيقية الآن يجب أن تكون إطلاق مفاوضات فورية لإنقاذ المحاصرين وإخراج الجرحى والمدنيين آمنين. تقديم حسابات واضحة عن أسباب فشل الخطط العسكرية التي كلفت أرواحًا لا تُقدّر بثمن. التعاون مع المجتمع المدني والرباعية الدولية لتأمين عمليات إغاثة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
الأمر ليس مزاجًا سياسياً يُدار خلف الكواليس، بل حياة إنسانية يجب أن تُقدَّر. التقاعس عن ذلك هو جريمة في نظر التاريخ والضمير.
خاتمة: الحقيقة المرة واجبة الترديد
نعم، الحقيقة مرة لكن السكوت أَو التجميل أكثر مرارة. كل من استعمل دماء أهلنا أداة سيُحمل وزرها، وسيُحاسبه التاريخ. إننا لا نريد أن نعيق ثورة سلمية أو تغييرًا حقيقيًا، بل نطالب بحماية الناس واحترام كرامتهم قبل أي حسابات سياسية ضيقة. إن استمر هذا المسار، فإن سيناريو الانهيار سيطال كل المدن أبيض، بورتسودان، وكل بقاع السودان ولن يبقى أحد بمنأى عن النار.
نطالب بلطف، اليوم بالوقوف على ضمير كل مسؤول: أوقفوا المجزرة، تفاوضوا اليوم، وأنقذوا ما تبقى من وطن. التاريخ لن يرحم من اختار النصر الزائف على حساب دماء شعبه.
المصدر: صحيفة التغيير