السفير عادل إبراهيم مصطفى
خلصنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة إلى أن مواقف دبلوماسية حكومة الثورة الأولى، التي ترأستها السيدة أسماء محمد عبد الله، جاءت معبّرة عن أهداف وشعارات ثورة ديسمبر المجيدة في ما يتصل بالسياسة الخارجية، والمبنية على مبادئ استقلال القرار الوطني وصيانة المصالح العليا للسودان.
أما دبلوماسية الحكومة المدنية الثانية، التي أُعلنت في 8 فبراير 2021 عقب توقيع اتفاق سلام جوبا، وعُرفت بـ”حكومة المحاصصات الحزبية”، وتولت فيها السيدة د. مريم الصادق المهدي حقيبة وزارة الخارجية ممثلةً لحزب الأمة، فقد افتقرت، بكل أسف، إلى التمسك بمبدأ استقلال القرار الوطني، وانزلقت إلى تبنّي مواقف منحازة، أضعفت الإرادة السودانية المستقلة، وجعلتها رهينة لمصالح أحد طرفي النزاع في ملف سد النهضة، وهو الطرف المصري، على نحو يشبه مواقف المكوّن العسكري في السلطة الانتقالية.
وقد بدا هذا الانحياز جليًا في تبني الحكومة الثانية خطابًا إعلاميًا عدائيًا ضد إثيوبيا، محمّلةً إياها وحدها مسؤولية تعثر مفاوضات سد النهضة، بالتوازي مع حملات مماثلة من الجانب المصري. كما تجلّى هذا التوجّه في عدد من المواقف الرسمية في المحافل الإقليمية والدولية، نورد أبرزها فيما يلي:
أولًا:
في تراجع واضح عن موقف حكومة الثورة الأولى الرافض لتدخل جامعة الدول العربية في ملف سد النهضة، أيدت حكومة المحاصصات الحزبية الموقف المصري بدعوة الجامعة إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب بشأن تطورات القضية، على هامش اجتماعهم التشاوري في العاصمة القطرية الدوحة بتاريخ 15 يونيو 2021. وقد أصدر الاجتماع بيانًا يدعم موقف مصر في تدويل القضية، ويربط الأمن المائي المصري والسوداني بالأمن القومي العربي، ويحمّل إثيوبيا وحدها مسؤولية فشل المفاوضات، كما أشار إلى ما يُسمى “الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل”.
ثانيًا:
وفي انسجام تام مع التوجّه المصري لنقل ملف سد النهضة إلى خارج الإطار الإفريقي، خشية من أن يُهدر الاتحاد الإفريقي الاتفاقيات الموقعة خلال الحقبة الاستعمارية، بادرت السيدة وزيرة الخارجية، د. مريم الصادق المهدي، بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي في يونيو 2021، متهمة إثيوبيا بالتعنت وغياب الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق يراعي مصالح الأطراف الثلاثة.
ويبدو جليًا أن هذه الخطوة جاءت بإيعاز مصري، حيث أتاحت لمصر تجاوز الاتحاد الإفريقي دون تكبّد الكلفة السياسية لذلك، مُلقية بالعبء على السودان. وقد أدى هذا إلى تحميل السودان مسؤولية الفشل الدبلوماسي بعد أن رفض مجلس الأمن مناقشة الملف، واكتفى بإصدار بيان رئاسي دعا الأطراف الثلاثة إلى استئناف المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، الذي اعتُبر الجهة الأنسب لمعالجة النزاعات المتعلقة بالأنهار العابرة للحدود داخل القارة. وبذلك، رجحت كفة الدبلوماسية الإثيوبية، الرافضة لتدويل القضية.
ثالثًا:
وفي إطار التماهي مع السردية المصرية، شنت الوزيرة هجومًا حادًا على إثيوبيا، متهمةً إياها بمحاولة زرع الفتنة بين العرب والأفارقة من خلال ما وصفته بـ”الأفكار التي تهدف إلى الإيقاع بين المواقف العربية والإفريقية”. جاء ذلك في مداخلتها بندوة “سد النهضة: التحديات وآفاق الحلول”، التي عُقدت في الدوحة بتاريخ 18 يونيو 2021، حيث أدانت الوزيرة الخطوة الإثيوبية الأحادية في ملء بحيرة السد دون اتفاق مع دولتي المصب.
رابعًا:
وفي تصعيد آخر، خاطبت وزارة الخارجية السودانية الأمم المتحدة رسميًا بطلب سحب القوات الإثيوبية العاملة ضمن بعثة الأمم المتحدة المؤقتة في أبيي (UNISFA)، المكلّفة بمراقبة الحدود بين السودان وجنوب السودان منذ عام 2011. وقد برّرت الوزيرة الطلب بقولها: “ليس من المعقول وجود قوات إثيوبية في العمق الاستراتيجي للسودان، بينما تحتشد قوات إثيوبية أخرى على حدوده الشرقية”، رغم أن الجيش الإثيوبي حينها كان منشغلاً بالحرب الداخلية ضد قوات تحرير شعب تيغراي.
واللافت أن هذا الطلب جاء دون تنسيق مسبق مع حكومة دولة جنوب السودان، الطرف الأساسي المعني بوضع منطقة أبيي، ما دفع جوبا إلى رفض الطلب إلا بعد التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن مصير المنطقة.
خلاصة القول، إن دبلوماسية “حكومة المحاصصات الحزبية” قد حادت عن نهج الاستقلالية والتوازن الذي تبنته حكومة الثورة الأولى، وسارت على خطى المكوّن العسكري في التفريط بمصالح السودان الاستراتيجية. فقد أضعفت تلك الدبلوماسية الدور السوداني في ملف سد النهضة، وأفقدت الخرطوم مكانتها كوسيط فاعل ومؤثر، بل جعلتها تبدو وكأنها طرف تابع للمواقف المصرية، الأمر الذي أضرّ بموقف السودان التفاوضي، وقلّص من قدرته على الدفاع عن حقوقه المائية ومصالحه الوطنية العليا.
في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة، نتناول مواقف المكوّن العسكري في السلطة الانتقالية تجاه سد النهضة، وتقاطعاتها مع المصالح الإقليمية والدولية.
المصدر: صحيفة الراكوبة