ساطعون تحت الشمس

د. عبدالرحيم عبد الحليم محمد
وقفوا كبنيان مرصوص يلتقطون صورا تذكارية أمام منظومة طاقتهم الشمسية الجديدة كحدث تاريخي مبهر على تلك الرمال الغالية باعلى القرية. طاقة أريد لها أن تقوم بضخ المياه في مفاصل الأركي التي تعني بلغة أجدادنا النوبة .. الارض الخصيبة … الماء الذي جعل منه الخالق سبحانه وتعالى كل شيء حى عبر الشمس التي أقسم بها “الشمس وضحاها”. ربما كان من بينهم طفل صغير يردد ذلك النشيد القديم الجميل الذي مر بنا في كتاب المطالعة للشاعر صدقي الزهاوي:
الشمس قد طلعت بوجه اروع
فوقفت مبهوتا لحسن المطلع
وجه كما تهوى الطبيعة سافر
ما ان عليه سوى السنى من برقع
في موكب فخم يزيد جلاله
لمع الاشعة في الفضاء الاوسع
هي في طريق عروجها وشعاعها
في كل ما تبدو له من موقع
بيضاء لولا ما بها من وخزة
لذاعة من حسنها لم اشبع
يا له من مشهد آسر أعيد وأعيد فتحه على هاتفي كفتح مبين شطح بي بعيدا الى عمق التاريخ بل والى كثافة ذكرياتي في القرية وتفاصيلها. تذكرت التاريخ القديم عندما كان المصريون القدماء ينظرون إلى دورة الشمس كرمز لدورة الحياة : الميلاد، النمو، الموت، والبعث. فمن خلال كتاب الإبتهالات الشمسية، أرادوا التأكيد على أن الموت ليس نهاية، بل مرحلة انتقالية نحو الحياة الأبدية. كانت مظاهر الاحتفال كما وردت فى اكثر من بردية من برديات العقيدة الفرعونية تبدأ بليلة الرؤية عند سفح الهرم الاكبر حيث يجتمع الناس فى الساعة السادسة مساء فى احتفال رسمى امام الواجهة الشمالية للهرم حيث يظهر قرص الشمس قبل الغروب خلال دقائق معدودة وكأنه يجلس فوق قمة الهرم لقد كانت معجزة رؤية الشمس عندهم هي عندما ينشطر ضوء الشمس على واجهة الهرم الاكبر الى شطرين ايذانا بموعد عيد الخلق وبداية العام الجديد حيث يقوم الاله رع بالمرور فى سماء مصر فى سفينته المقدسة وبقرصه المجنح ثم يرسو فوق قمة الهرم الاكبر .. ثم يصعد الى السفينة مرة اخرى وقت الغروب لتكمل مسيرتها فيصطبغ الأفق باللون الاحمر رمزا لدماء الحياة التى يبثها الاله من انفاسه الى الأرض ليبعث الحياة فى مخلوقاتها وكائناتها من جديد.
كانوا يلتقطون صورا ما أروعها وجسم الالواح الشمسية يمتد أمامهم كنسر اسطوري يفرد أجنحة عظيمة قبل الاقلاع بالقرية الطيبة الى مدارج عصر الطاقة الشمسية . أحسست أن التاريخ والذكريات تنهض من مراقد نورية لتشعل وجداني بشكل له رقة النسم ودمع الفرح وعذابات المنافي البعيدة. وددت لوأني هناك مع الآباء ينهضون من مراقدهم ممسكين بأياديهم سيرا على درب التُرُك نحو بنية الشيخ العابد ود الكندري يدخلون تحت شجرة الدوم الظليلة الى البنية وربما يجدون داخلها سادنتها العمة المرحومة ست النفربت الفقير “تتخرجهم” وتدعوا له بالبركة وتمنحهم من تراب البنية المختلط بمسحوق زهور شجرة الدوم الأصفر ومن ثم يبدأون المرور على سواقي القرية ساقية ساقية يتغنون كأجدادهم بابتهالات الشمس ومطالعها الرفيعة عبر منظومة الطاقة الشمسية الجديدة التي حق لهم الفرح والاحتفاء بهاوهي تتمددالآن كفتح مبين في خاصرة الصحراء يتلون من كتاب الله “والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز الحكيم”.
.لم يكن العمل الجماعي جديدا على أهلي فقد كنا ونحتفي في ميعة الصبا نرى لافتة ملونة لا زالت حتى اليوم بين ثنايا كتب وملفات الوالد .. شيخنا عبد الحليم طيب الله ثراه .. لافتة ملونة وزاهية تحمل الاسم رابطة أبناء الأركي. من منا لا يذكر محمد خدر بشير “ود التبيق” وشقيقه عثمان الخدر”فكينا” وشرف الدين وقيع الله وسعيد عبد العزيز وهم يضرمون أنوار الرتائن في منزل الخال خدر علي ابوسوار كناد مؤقت للقرية وهناك بخلوة شيخنا عبدالحليم رتائن أخرى يضيئها شرف الدين الحسن لشقيقته فاطمة “بت عمار” وهي تنجز فصول محو الأمية لامهاتنا بدءا من مفتاح المعرفة الى طريق المعرفة وكأنها كانت في علم الخالق جل وعلا طرقا مصوبة نحو طاقة الشمس التي تنعم بها القرية الآن وتلك شمس لم يفت على شاعر مبدع كسيد احمد الحردلو التغني من خلالها بحسن الوطن وجمال أمسياته:
يا مرمي تحت الشمس
للقيلة ضلية
يا سحنة نوبية
يا كلمة عربية
يا وشمة زنجية
ولئن كانت الشمس حارقة رؤوما لهم وهم يشقون الأرض بمعاولهم قديما أو ينثرون بذور القمح والذرة واللوبيا والترمس …”يقرعون” الموية أو ينهبون الأرض على ظهور حمر مسرعة نحو مورة أو التكَّر أو بار الضريساب أو البرصة لحضور مناسبة أو جبر خاطر أو صلة رحم، فقد أدى دور الكوكب العظيم ليمدهم بطاقة الشمس فيشربون ماء زلالا ويمنحونه لغيرهم فلا يشربون كدرا أو طينا. لقد تمنيت أن ينهض من جديد نخل عجوز منقعر طوَّح به العطش أو تصحو من مراقدها أشجارحنَّاء ارتفعت الى جنة المأوى أو سيسبانة لقيت حتفها في عز شبابها أو نيمة تحولت الى عصف مأكول بحيث توقظ الشبكة الجديدة ما مات ويصحو اباء من مراقدهم يصطفون بنوباتهم في “شباب” الأركي طائفين حول المنظومة الجديدة بمدائحهم وأجراسهم العالية:
صلول على .. صلوا على
بحر الصفا المصطفى . صلوا عليه
آله والصحب آل الوفا .. صلوا عليه.
فتحرج محيية ومادحة من وسط الجموع الفرحة الوالدة نفيسة بت أبكراوي تبشر وتمدح “للختِم” وربما أتى من قرية مجاورة عيسى ود حسن العاصي بروحه مادحا ، أوجاء بصليل نوباتهم اباؤنا … ود عايد وود علوبة وعلي بابكروالكيك ومحمد صالح وعمنا عبد الله بابكر علوب وعمرفكي وسعيد قسم الله وشريفي المكي وحسن وقيع الله وحمدة وعبد الغني بابكر وبركات شيخنا الحسن ود حمد خير … عمي عثمان عمر وخضر بشير كرار وعبد الحليم كرار وأحمد عباس وشيخنا علي الحاج وجميع ابائنا الراحلين.
ولئن كانوا قديما ونحن أطفالا يخيفوننا ب”ود امبعَُلو” و”الكيكران” والضبعة وشياطين الطندباية ،
فقد نرى من بين أنوار العصر الرقمي الكاسحة جيلا جديدا لا قبل لنا به بمجاراته في العصر الرقمي .. عصر الطاقة الشمسية. فبنقرة خفيفة على الحاسب الآلي من أحدهم ، يستطيع الواحد منهم ايقاظ الراحل صلاح أحمد ابراهيم من مرقده في تخوم الحاسب الآلي مرددين معه:
أنا من أفريقيا
صحراؤها الكبرى وخط الاستواء
شحنتني بالحرارات الشموس
وشوتني كالقرابين
على نار المجوس
فأنا منها كعود الأبنوس
وأنا منجم كبريت سريع الاشتعال
يتلظى كل ما شم على بعد جمال.
في عصرنا هذا التقني الكاسح سيلقي جيلنا ألعابه القديمة .. الطاب .. وكعود … وحرينا ودار الصف .. لفوا لفوا … لنتعلم من جيل رقمي جديد أمورا نراها قادمة في عصر الطاقة الشمسية لو رآها الاجداد لظنوا أنها من عمل الشيطان.
كان المدخل لبناء منظومة الاركي الشمسية عبر اخوة كرام في الجمعية السودانية الامريكية بشمال كاليفورنيا حيث تم ربطنا بمنفذين كرام داخل الوطن الغالي هم منظمة صدقات تضافرت جهودهم مع الفكرة التي ابتدرها شباب القرية فصحونا لنجد الحلم وقد تحقق وأن المنظومة تفتح أذرعها للشمس .. تستقبل اشعتها وترسلها ماءا زلالا لأهلي هناك .إنه .حدث مفرح للآباء والأجداد ومأثرة تؤكد أن التغيير في وطننا الغالي ممكن وأن الزبد يذهب جفاءويمكث في الأرض ما ينفع الناس..
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة