زغرودة الكنداكة شارة ضبط الوقت الثوري

د. عبد الله عابدين

يبدو أن عناصر الثورة وشروطها اكتملت في السودان هذه المرة، وما هي الا هبات حتى ظهر جسم قيادي لهذه الثورة، ممثلا في تجمع المهنيين السودانيين، وقد أشرنا اليه في فقرة من مقال سابق.

ويمثل هذا الجسم الجديد نسبيا، نقابات تكونت وسط مختلف المهنيين في السودان، في محاولة لصد غوائل تلك النقابات المزيفة التي كونها نظام الإنقاذ لتكون موالية له، تأتمر بأمره، وتنصاع لخططه الشيطانية في تكميم الأفواه. وتصك إمضاءها مدفوع الثمن، على كل ما تقره هذه السلطة الغاشمة، التي لا يكتفي عطشها للظلم والبطش، وتكديس الحطام: دليلنا القاطع على نظرتها الموغلة في المادية، والبعيد عن كل قيمة، بل محض التجارة بهذه القيم، وعلى قمتها القيمة الدينية.

ثم إن تجمع المهنيين السودانيين تقدم الى طيف واسع من الأحزاب، والكيانات المدنية، والحركات المسلحة، فانضوت تحت اسم قوى الحرية والتغيير، فوقع معها وثيقة عرفت بوثيقة إعلان قوى الحرية والتغيير، واعتبرت المرجعية الأساسية في قيادة الحراك الجماهيري في السودان آن ذاك.

منذ أوائل العام 2019 أضحى تجمع المهنيين السودانيين رأس سهم الحراك، ومرسى سفنه المعبأة بالروح الثوري الجديد، وربما يمكن ارجاع نجاعة قيادته آنذاك الى قربه من نبض الشارع، فصار يضع الجداول للمظاهرات التي انتظمت بصورة معينة، متواترة مع ازدياد في زخمها وعنفوانها كل يوم جديد.

وكانت جداول الحراك هذه تظهر في صفحة التجمع في الفيس بوك فتتبع خطاها جماهير الثورة العريضة، مستأنفة حراكها من نقاط محددة، وبجداول زمنية مرسومة بدقة. والثورة بهذا أضحت بفعل من ترسمها للفطرة الانسانية السليمة مراعية “لأدب الوقت” الثوري: مظاهر تجسدت في الالتزام الصارم بجداول الخروج للتظاهر، واصطناعها لزغرودة الكندالة شارة لضبط الوقت الثوري.

وزغرودة الكنداكة هذه تمثل ابداعاَ جديداً من ابداعات الثورة، فمثلاً، قبيل الساعة الواحدة بثوان تنطلق الزغرودة، فاذا بالشوارع تغص بالثوار: أدب وقت جديد، شكل هزيمة كبرى لمقولة “الزمن السوداني” الشهيرة والتي لا تعني شيئاً سوى عدم الالتزام بالزمن المحدد للأشياء، والأحداث.

ألا ترون أن الثورة قد هزمت هذه العادة الموغلة في التخلف والغفلة، وأصابتها في مقتل؟! .. هنا أقتبس من شاعر الثورة شيخون: “الثورة تغيير في النفوس”، فهي هكذا معول عليها أن تبدأ بالخارج لتعيد ترتيبه وفق نسق موضوعي ما، ومن ثم تزحف الى سراديب النفس البشرية، وهنا مضمار اكتمال الثورة بمعناها العميق، فالنصر الحقيقي لا يكون الا في هذا المضمار، وهذا هو المجلى الأعمق لمقولة “التغيير الجذري”.

عوداً، بعد، الى كر وفر، واستشهادات، وإصابات، المرحلة الأولى للحراك، مرحلة ما قبل الاعتصام في السادس من أبريل ٢٠١٩ أمام القيادة العامة للقوات المسلحة. هنا بدا أن أمرا جليلاً قد حدث للحراك، فها هو ذا، بعد التئام شمله، قد تحول الى هذا المد الشاسع من الوجود الثوري في مكان واحد، وفي حماية قوات الشعب المسلحة، أو قل، ان أردت الدقة، تحت حماية الأحرار منهم: أولئك الذين كانت ما تزال سودانويتهم، وإنسانيتهم، في أمان من غوائل تحريف، وطمس، المشروع الإسلاموي، وسلطته المكرسة للسطو على الفطرة السودانية، والاعتداء على ما بها من نقاء، وطيب، وصفاء.

باجتماع الشمل هذا، دخل الحراك مرحلة جديدة من مراحل القدرة على التعبير السلمي الضاغط، وقد بدا عنفوان الثورة مداً لا يقاوم، وزخمها سدا منيعا أمام قوى الظلام، التي طالما صورت لها عنجهيتها بأن شيئا من هذا سوف لن يكون!!.. لماذا؟ الإجابة الحاضرة هي أنهم كانوا مستوعبين في تدبيج عبارات من قبيل “ألحسوا كوعكم” قبل أن تقتلعونا، وغيره من التعابير السوقية التي ترمي الى استصغار الشعب السوداني، والاستهانة به. بالاضافة الى اصابتهم بنوع جديد من الإدمان، ألا و هو إدمان النظر بالعين العوراء، وتحكيم النظرة الأحادية الضيقة، التي تعجز عن إجالة البصر على كامل الدائرة، كالسوام التي لا ترى الا الجانب الذي تأكله من الشجرة!!..

في أجواء قوة السلم العارمة، التي تزود بها الثوار في حراكهم الباسل في مرحلة ما قبل الاعتصام، لم تجد قوى أمن النظام الملثمة بداً من إعمال آلة قمعها في التقتيل والضرب والتعذيب. جراء هذا سقط شهداء كثر، راوين أرض السودان الطيبة بدمائهم الزكية الطاهرة، وماهرين مد الثورة بأرواحهم الغالية. وقد ختمت هذا المرحلة ببلوغ موجات الثوار ساحة الاعتصام أمام بوابة القوات المسلحة وحولها في السادس من أبريل 2019.

جراء هذا الحدث الجلل كتب تاريخ جديد للثورة السودانية، فقفزت الى مرحلة جديدة من تاريخها، هي مرحلة الاعتصام في ميدان واسع، تتفرع منه الطرق: بدءاً من شارع القيادة نفسه، ثم شارع الجامعة وشارع الجمهورية، وشارع البلدية، وشارع بري، وشارع المطار. فجأة غصت هذه الشوارع بسيل عارم من الشباب والشابات وحدثت أشياء لم تكن في الحسبان: فالرئيس البشير لا يرى بدا من إبادة ثلث الشعب السوداني وحكم الباقي، حسب زعمه بأن المذهب المالكي يجيز ذلك، فانظر كيف يوظف “فقه الضرورة” هنا!!.. هكذا برع “ميكافيلليو” الإنقاذ في الذهاب بالدين وقيمه السمحاء الى سوق نخاسة من صنع خيالهم المريض، ومن بقايا سكرهم بالسلطة المطلقة. ولا أحد يقول لنا بالضبط من وقف في وجه هذه “الفتوى البشيرية” الكبرى، فكل من كانوا حوله يدعي أنه قد فعل!!..

فجأة، في غمرة هذه الأحداث المتلاحقة على قارعة اعتصام الثورة، ظهر أحدهم وهو وزير دفاع البشير السابق، عوض إبن عوف.. خرج علينا يقرأ خطابا هزيلاً، كل ما فيه من سوء إخراج يندلق خارجه خوفاً، بل رعبا!!.. و قد بدت واضحة على سيماه المتلبس بالأمارات البينة لما طبخوه سويا.. خرج هذا الوجود الهزيل وهو يدعي: “اقتلاع النظام السابق، والتحفظ على رأسه في مكان آمن”.. يتفوه بذلك بأسلوب ملحن رتيب بغية “أن يواري سوأة أخيه”، البشير طبعا!!. ولما ووجه فورا بهتاف ثوري قوي يحول إلى شخصه كل ما كان يتجه به الى مخلوع الأمس، البشير، ولى ابن عوف هاربا، جارفا معه نائبه القريب هو الآخر من المخلوع، كمال عبد المعروف، ولم يعودا حتى الآن..

وإني لأعتقد، غير جازم بذلك، أنهم، أي ابنعوف وكمال، قد حبوا شجاعة التواري من المشهد، وربما عدم التمادي في الخطأ والعزة بالإثم، كما فعل ويفعل الكثيرون غيرهم من أركان الإنقاذ ودهاقنتها..

ومن إعجاز هذه الثورة المجيدة خلعها لرئيسين، أو قل لنسختين من رئيس واحد، واتمامهم كل ذلك الانجاز في ما لا يتجاوز الـ ٤٨ ساعة!!.. وكانت حكومة ابن عوف، أو مجلسه الهزيل، أقصر حكومة، ربما، في التاريخ البشرى قاطبة. وعقب هذين السقوطين المدويين للبشير، وابن عوف، وعلى أنقاضهما، ظهر مجلس عسكري يرأسه عبد الفتاح البرهان، وهنا فوجئنا بعودة محمد حمدان دقلو، “حميدتي”، نائبا للبرهان، وكان قد استقال من مجلس ابن عوف.. هذه التحولات والتبدلات السريعة ليست سوى ردود أفعال مرتبكة ومشوشة من قبيل مصاب بسوء التقدير, وموعود بسوء المنقلب، إن شاء…

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.