أطياف

صباح محمد الحسن

طيف أول:

يخلق ظهور الحقيقة عالمًا مليئًا بالارتباك، حتى لحظة الشروق الأخير، عندها يتلاشى الظلام بلا عودة!!

ولعل أفضل ما قدمته الولايات المتحدة الأمريكية لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان من “صفقة عمر”، هو أنها سمحت له بفرصة الحوار، بالرغم من أن سجله مثقل بالجرائم، وتحاصره عدد من الاتهامات. فأمريكا ساوت بين الدعم السريع وقيادة الجيش في الحرب على خلفية الانتهاكات المرتكبة منذ بدايتها، عندما سمتهما “طرفا الصراع”، وكانت تريد أن تفرض الحل بطرق أخرى، إلا أن حلفاء البرهان توسطوا له عندها ليعطي فرصة أخيرة للحوار باعتباره يمثل القوات المسلحة، وأنه لا قرار للإسلاميين على الجيش.

لهذا، وإن تردد البرهان في اتفاقه أو نيته سحب وفده “الوفد الذي أنكروا وجوده من الأساس” فلن ينعكس ذلك سلبًا على البرهان فحسب، وإنما أيضًا على حلفائه الذين يمكن أن تشملهم حالة “اللاثقة” التي دمغتها أمريكا الآن بالبرهان.

لهذا، وبعد آخر فرصة للثقة، فما تريد أمريكا طرحه بالحسنى ربما تضطر إلى فرضه بطريقة أخرى، فقانون الإرهاب الذي حاصرت به الإسلاميين، للحد الذي جعلهم يهرولون لكسب ودها، به العديد من الثغرات التي يمكن أن تُستخدم في ليّ الذراع.

وبما أن البرهان يعلم الاتفاق وما يحويه، لأنه عُرض عليه مسبقًا في لقاء بولس، لكنه بتردده سيجد نفسه أمام ورطة أكبر من التي يعيشها الآن هو وفلول النظام البائد وإعلامهم، الذين وصل بهم الذل والهوان إلى عرض الوطن في مزاد علني. والغريب أنهم لا يستحون من الكشف عن أن وزير الخارجية يزور أمريكا لعقد لقاءات وصفقات مع مسؤولين أمريكيين، وهو العرض الذي لا تفسير له سوى أن الحكومة السودانية تعرض “رشوة” واضحة وصريحة على الحكومة الأمريكية حتى تعفو عنها، وهذه فضيحة يجب ألا يجاهر بها الإعلام الكيزاني.

لأنها تأتي في وقت أشهرَت فيه الولايات المتحدة الأمريكية عصا العقاب، وخنقت الحكومة بقانون الإرهاب الذي يسمح لها بالقبض على جميع القيادات الإسلامية المجرمة من مقر إقامتها، كما فعلت ذلك مع قيادات التنظيم الإسلامي في عدة دول. فالحكومة، عبر وزير خارجيتها، لا تعرض صفقة لفك حصار الفاشر، بل تعرض صفقة لفك الحصار عنها.

ولو ظنت أنها يمكن أن تشتري سلامتها بالعقاب بصفقة مشبوهة، فهي واهمة. فالصفقات التي تعود ترامب عليها هي صفقات بيضاء يعقدها مع الدول العظمى التي تعتبر ندًّا للولايات المتحدة الأمريكية، أو الدول التي لديها قيادة محترمة، ولم ترتكب جرائم بحق شعوبها، أو تلك التي تتقاطع بينها وبينه المصالح المشتركة دوليًا وإقليميًا. ولكن ماذا يفعل ترامب بصفقة مع مجموعة والغة في الفساد ونظام تلوثت يداه بدماء الشعب!!

فترامب يعلم أن الحكومة هي من “دنا عذابها”، وجدت نفسها أمام حبل المشنقة، لذلك جاءت إليه ذليلة خاضعة، بالرغم من أنها تحدّت أمريكا من قبل على لسان وزرائها وقالت “لن تفرض علينا أمريكا حلًّا”. فلماذا هرولت الآن إليها؟ أليس من باب الكرامة أن تصدر بيانًا واحدًا من بورتسودان ترفض فيه الخطة الأمريكية!!

لماذا أرسلت وفدًا للتفاوض؟ ولماذا أرسلت وزير خارجيتها ليقدّم الذهب والمعادن لترامب!!

فوجود وزير يتسوّل الرضا من أمريكا يكشف مفارقة أليمة، بأن الولايات المتحدة الأمريكية تعرض اتفاقًا على الحكومة حتى تنقذ الشعب السوداني من الموت والجوع، والحكومة تعرض لها الذهب والمعادن لتشتري بقاءها في السلطة على حساب موت الشعب وجوعه!! فهل هناك عار أكثر من هذا؟!

وثمة عدة أسباب جوهرية لبوار تجارة الحكومة في السوق الأمريكية

أولها: أن الحل المطروح لإشاعة السلام في السودان هو قرار توصلت إليه كافة دوائر القرار الأمريكي، ويتبناه الرأي العام الأمريكي، وتطالب به المنظمات الإنسانية، حتى إنها هي من ألحت على ترامب، وضغطت عليه حتى يهتم بالقضية السودانية، ويحقق سلامًا عاجلًا للشعب السوداني.

إذًا، ترامب نفسه لن يستطيع الخروج من مربع الحل، ولو سال لعابه على طبق وزير الخارجية، لأن القضية يطوقها اهتمام أخلاقي وإنساني.

ثانيًا، لوّحت أمريكا بمطاردة الحكومة السودانية وفقًا لقانون الإرهاب، وهو القانون الذي لا يخضع للمساومة، ولا يمكن أن تتجرأ الإدارة الأمريكية على مقايضته بصفقة مشبوهة.

ثالثًا، طالما أن أمريكا تتبنى مشروع طرح الحكم المدني في السودان، فما الذي يمنعها من عقد صفقات نظيفة مع الحكومة المدنية المستقبلية، والتي يمكن أن تفتح لها كل أبواب الاستثمار بالطرق المشروعة، دون أن يعرضها ذلك للتضحية بسمعتها وأخلاقها؟ فصفقات ترامب في سودان آمن مستقر أفضل له من صفقات مع حكومة حرب تلاحقها الجرائم وبلاغات الفساد.

رابعًا، القضاء على الإرهاب هو مشروع تشارك فيه أمريكا عدة دول كبرى، الأمر الذي يجعل التنازل عن إزاحة نظام إخواني أمرًا شبه مستحيل.

خامسًا، ما يعكسه ميدان الصراع يؤكد أن الدعم السريع مُنح بطاقة خضراء جديدة لاجتياح المدن، تزامنت مع وجود التمثيل العسكري للطرفين بواشنطن، وهو ما يعني أن هناك خطة إضعاف على الأرض مباركة دوليا، وهو أمر إن حدث سيمنح الدعم السريع مجدًا لم يحققه من قبل، وقد يغنيه عن الحضور أولًا على طاولة التفاوض.

فما يعرضه النظام الحاكم بالسودان من رشوة على الحكومة هو آخر علامات النهايات. فالنظام السوري في آخر عمره، عندما شعر بدنو أجله، قدّم بشار الأسد لأمريكا كل ما يملك، ولكنها ردّت “انتهى الوقت”.

طيف أخير

ميدان ملتهب وتمدد عسكري مزعج، فهل تقف الحركات المسلحة الآن على أرض “هشة” قابلة للتزحزح!!

فأحمد هارون “الميت جنائيًّا”، بدلًا من تحريض البرهان، يجب أن يتحسس وجوده العسكري من موقف الحركات!!

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.