منبر واشنطن للآلية الرباعية
إيمان بلدو
بعد انقضاء أكثر من عامين من الحرب التي بدأت في منتصف شهر أبريل 2023 م، يشهد السُّودان أكبر كارثة إنسانية في العالم، إذْ يعاني الملايين من أبناء وبنات الشَّعب السُّوداني من أكبر أزمة جوع وأكبر أزمة حماية المدنيين وأزمة نزوح في العالم اليوم. أُرْسِلَت نسخة من هذا الكتاب لمنبر جنيف في أغسطس 2024 م، ونعيد إرسال الكتاب لعناية الاجتماع المرتقب في واشنطن إذ “يترقب السودانيون اجتماع الرباعية الدولية، الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر المقرر في واشنطون في 29 من يوليو (تموز) الحالي وما قد يتقرر فيه من خطوات لوقف الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، بعد تعثر كل المبادرات الإقليمية والدولية لوضع حد لها” حسب “الشرق الأوسط” بتاريخ 21 يوليو 2025 م.
تتحمّل الأطراف المتحاربة المسؤولية الأساسية عن الانتهاكات التي منذ 15 أبريل 2023، والتي نتج عنها حتى الآن انهيار معنوي مُطبق، وأزمة حياتية باهظة التَّكلفة عمّت جميع أنحاء البلاد. ومنذ بدء اشتعال هذه الحرب في العاصمة الخرطوم، حيث كانت تتمركز العديد من قطاعات الإنتاج والخدمات، تكبَّد السُّودان تكلفة فاقت كل المقاييس، شملت تدمير البنية التَّحتية، والمجمَّعات الصِّناعية، ومختلف سبل كسب العيش للملايين. لقد فقد الملايين من السُّودانيين ممتلكاتهم وتواصلهم العائلي، و حواضنهم الاجتماعية وسبل كسب عيشهم، بينما بلغ عدد الضّحايا ممن فقدوا حياتهم عشرات الآلاف، مع العلم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة فيما يتعلق بأعداد الجرحى والمصابين والمفقودين. لقد اضطر أكثر من 10 ملايين سوداني إلى النُّزوح لعدة مرَّات داخل البلاد، ووفقًا للمنظَّمة الدّولية للهجرة، فقد شقَّ أكثر من مليوني شخص طريقهم إلى البلدان المجاورة، حيث يعيشون في أوضاع مزرية، ومحفوفة بالمخاطر الجَّسيمة. نحن أمة نحيا الآن في حالة من الفرار المستمر من خطر داهم وماحق يتربص.
المجاعة الطَّاحنة تنذر بالأهوال
يُعاني السُّودان من أكبر أزمة جوع في العالم مشرفاً على تخوم انهيار كامل، وذلك وفقًا لوكالات الأمم المتَّحدة وحسب إحصائيات المنظمات العاملة في السودان، والتي تتابع حالات سوء التغذية خاصة بين الأطفال دون سن الخامسة، إذ يقدر العدد الحالي بأكثر من 3 مليون طفل.
حماية المدنيين: الأمن من الجوع والأمن من الخوف
“وقف إطلاق النّار بمعزل عن ترتيبات مصاحبة لن يحمي الأرواح”، خلود خير (إفادة أمام مجلس الأمن الدّولي، 7 أغسطس 2024).
تعتقد كاتبة هذا المقال أنه، ومن أجل النّجاح في جهود وقف الحرب في السودان، يتعيّن على الحكومة الأمريكية، والوسطاء، والشُّركاء التركيز على يلي:
.الدِّفاع عن مبررات تعاطيهم مع السِّياق السُّوداني كما يجب، تجنب أوجه القصور السَّابقة في مسار انخراطهم في الشَّأن السُّوداني في مرحلة ما بعد ثورة 2019 في السُّودان، وذلك من أجل العمل على تأسيس نظام سياسي مستقر. وفي هذا الصَّدد، يتعيّن على اللَّاعبين الدّوليين أن يكونوا حازمين في ضرورة تحاشي الوقوع في نفس الحسابات الخاطئة السَّابقة، واتّباع مسار جديد في مواجهة الحقائق، حيث لا يحتمِل الوضع المزيد من الفرص الضَّائعة.
.الاستمرار في محادثات وقف إطلاق النّار غض النَّظر عن طبيعة ومستوى تمثيل الأطراف المشاركة. ويجب على جميع الحاضرين تأكيد التزاماتهم بموجب القانون الدولي الإنساني والقانون الدَّولي لحقوق الإنسان. ومن المهم أيضًا أن تلتزم الوفود المشاركة بإلزام المتحاربين بوقف التَّجنيد القسري للمدنيين للانضمام إلى صفوفهم، بما في ذلك تجنيد النِّساء والشَّباب علاوة على إلزامهم بخطط عاجلة لحماية المدنيين.
.ضمان التَّوقُّف الفوري للأعمال العدائية، ومنع أي توسع إضافي للقتال في مناطق أخرى في السُّودان من قِبل قوّات الدَّعم السَّريع والمليشيات المتحالفة. كما يجب فرض حظر على استمرار القصف الجَّوي على المدنيين من قِبَل القوّات المسلَّحة السُّودانية. بالإضافة إلى ذلك، يجب حظر إيذاء المدنيين بما فيه الإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي والامتناع من أي شكل من أشكال التعذيب من قبل كلا الطَّرفين المتحاربين، واعتبار ذلك الفعل ضمن جرائم الحرب. علاوة على ذلك، ينبغي اتِّخاذ إجراءات عقابية ضد الأطراف التي تنتهك هذه الأحكام، وكذلك ضد الجِّهات الخارجية التي تدعم أي طرف من خلال استمرار تزويده بالأسلحة، مما يؤدِّي إلى تفاقم النِّزاع.
.مراجعة التَّجارب السَّابقة في السُّودان، وفي مناطق النِّزاعات الأخرى، والتي تم فيها التَّفاوض على وصول المساعدات الإنسانية مع الأطراف المتحاربة على الأرض، وذلك بغض النَّظر عن وجود اتِّفاق شامل لوقف إطلاق النّار في الوقت الراهن.
.المواءمة بين نص وروح اتفاقيات وقف إطلاق النّار التي سيتم التَّوصُّل إليها. وذلك لأن إعلان جدة بتاريخ 11 مايو 2023، وما جاء بعده من جولات محادثات، كانت غير ذات أثر، وكذلك كانت سلسلة من اتِّفاقات وقف إطلاق النّار المؤقت، والتي نكصت الأطراف المتحاربة عن الالتزام بها قبل أن يجف المداد الذي كتبت به. وهنا نؤمٌن على أن المطالبة بوقف جميع الأعمال العدائية والوصول إلى اتفاق دائم لإطلاق النار إضافة إلى توفير ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية إضافة إلى توفير آليات لحماية المدنيين وهي مسألة ضرورية وعاجلة في آن معاً.
.وضع أنظمة دقيقة لمراقبة وضمان ترتيبات وقف إطلاق النّار مع تحديد أسقف زمنية واضحة وملزمة.
.إنشاء أنظمة إدارية ورقابية بالتَّعاون مع المجتمعات المحلَّية لتحقيق هدفين: أ) متابعة مستويات الأمن الغذائي؛ ب) إنشاء أجهزة محلّية تكلّف بالإشراف على الأزمة المستفحلة وإدارتها، وذلك من خلال حصر الموارد المتاحة وتوزيع الغذاء والدّواء بين ولايات السودان المختلفة.
تأمين الموسم الزّراعي في جميع أبعاده.
توفير أنظمة الإنذار المبكر لدرء مخاطر الفيضان في موسم الأمطار.
محاصرة الأمراض المعدية مثل الكوليرا وتوفير المدخلات العلاجية.
تحاشي الوقوع في اتِّباع أساليب الإصلاح الأمني الرّمزية والأساليب غير الجَّوهرية، وتفادي بروتوكولات نزع السِّلاح والتَّسريح وإعادة الدمج غير المكتملة مع وضع الجداول الزمنية المحددة لما يتم التوصل إليه من اتفاق.
تجنُّب جميع أشكال ترتيبات تقاسم السُّلطة في الاتفاقات المستقبلية.
تجنُّب تقسيم البلاد بين الأطراف المتحاربة وفقًا لجغرافية السَّيطرة الحالية على الأرض.
استبعاد الأطراف المتحاربة عن أي تشكيلات للحكومة المستقبلية.
إزالة جميع أشكال الوجود العسكري داخل المدن، والخروج من الأعيان المدنية، بما في ذلك المناطق السَّكنية مع تحديد الأسقف الزمنية لذلك.
الاعتراف بأنظمة ومبادرات الوساطة والحماية المجتمعية المجرّبة والمتاحة على أرض الواقع، والعمل معها يدًا بيد. وفي هذا الصَّدد، من شأن المسارات المجتمعية لبناء السَّلام أن تُسهِّل اتِّباع نهج أكثر قوة واستدامة من أجل تحقيق السَّلام.
إضافة العنف الجِّنسي المتعلِّق بالنِّزاع المسلح كمعيار محدَّد منفصل للعقوبات التي تستهدف الأفراد. إن الحاجة إلى حماية المدنيين، وخاصة النِّساء والأطفال، ذات أهمية قصوى سواء أكان ذلك داخل السُّودان، أو على حدود السُّودان أو خارجه في الدول التي لجأ إليها السودانيون.
.توسيع مدى حظر الأسلحة ليشمل جميع أنحاء البلاد.
.تقليص الخلاف داخل الأطراف المتحاربة، وفيما بينها، من خلال بناء الثِّقة.
.توفير الأمن والمعينات المعيشية للسودانيين العائدين من خارج البلاد.
.ضمان مشاركة النِّساء في جميع عمليات المساعدات الإنسانية، بما في ذلك تحديد الاحتياجات، فضلًا عن المشاركة في توزيع المساعدات ومراقبة العمليات الإنسانية.
.توفير التَّمويل الضَّروري للمبادرات السُّودانية، مثل المطابخ المجتمعية وغرف الطوارئ.
.ضمان مشاركة النِّساء في محادثات وقف إطلاق النّار ومحادثات السَّلام المخطَّط لها، وكذلك أنشطة بناء، وصنع، ومراقبة السَّلام في المستقبل.
تحتاج الولايات المتَّحدة وشركاؤها إلى إنشاء بعثة لحماية المدنيين لتنزيل مخرجات ما يُتفق عليه على أرض الواقع.
التمويل الذاتي المقترح لبرامج المساعدات الإنسانية
تُقِرُّ نتائج قمة ريو+20 (https://sustainabledevelopment.un.org/rio20.html)، وأجندة 2030 للتَّنمية المستدامة، أن التِّجارة الدّولية تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز النُّمو الاقتصادي المستدام والشَّامل، وخلق الوظائف، وزيادة الدَّخل، وتحسين رفاهية الشُّعوب.
باعتبارهم الأطراف المعنية الرَّئيسية وأصحاب المصلحة في قضايا التِّجارة وأهداف التَّنمية المستدامة (SDGs)، تنشط كل من الأونكتاد (UNCLAD)، ومنظَّمة التِّجارة العالمية (WTO)، والمركز الدَّولي للتِّجارة، في مراقبة الاتِّجاهات، وتحليل السِّياسات، وبناء القدرات التحليلية، وذلك لجعل التِّجارة الدّولية محرِّكًا للتَّنمية المستدامة.
تجارة الذَّهب كمحرك للاقتصاد السوداني:
رغم العواقب الكارثية للحرب المستمرة، لا تزال عمليات نهب الذَّهب والموارد المعدنية الأخرى تجري على قدم وساق. في الوقت نفسه، ما زالت حكومة الأمر الواقع تقوم بتصدير المنتجات الزّراعية، بما في ذلك الصّْمغ العربي، بالإضافة إلى اللُّحوم والحيوانات الحيِّة، بينما يواجه أكثر من نصف سكان السُّودان مجاعة وشيكة. أمّا التَّعهُّد بالتَّبرُّعات لبرامج المساعدات الإنسانية للسُّودان حسب مؤتمر لندن في أبريل 2025 م،، فلا زالت الوفاء بها يراوح مكانه في حدود حوالي 14%.
في إطار المحاولات لإيجاد حلول للاحتياج الماس للموارد المالية طُرحت مبادرة، في إطار توصية سياسية، تحت اسم “الذَّهب، والسَّاحل، والموارد الطَّبيعية: سعي السُّودان للتِّجارة، وليس المساعدات”. نشرت المؤلفة هذه الفكرة لأول مرة في فبراير 2024. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت الفكرة زخمًا ودعمًا من مستشارين وخبراء بارزين، بما في ذلك المكتب الاستشاري العالمي (wide Scope Consultancy). وقد طرحت المؤلفة هذه المبادرة من خلال مشاركتها في المنتدى السِّياسي الرِّفيع المستوى للتَّنمية المستدامة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، في شهر يوليو 2024.
يتم تداول الذَّهب السوداني حاليًا بشكل علني عبر ميناء بورتسودان كما يتم تهريب الذهب بطرق سرية عبر منافذ عديدة، بينما تستمر عائدات هذه التِّجارة في تأجيج الحرب، إذْ يستولي أمراء الحرب على الجُّزء الأكبر من العائدات. ومن أجل وقف الحرب في السُّودان، فإن الخطوة الأولى هي تجفيف الموارد التي تغذيها.
يدعو مؤيدو المبادرة إلى إنشاء صندوق تمويل للاستقرار (Stabilization Fund)، تحت إدارة برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائي (UNDP)، لتمويل برامج المساعدات الإنسانية في السُّودان. وبالتَّعاون مع الدُّول والشَّركات التي تستورد الذَّهب والمنتجات الزِّراعية، يكون من الواجب على الولايات المتَّحدة وشركائها التَّوصُّل إلى اتِّفاق مع المستوردين للإفصاح عن قيمة معاملاتهم في هذه السِّلع، والمساهمة في توفير الموارد المالية لصندوق استقرار السُّودان. كما ينبغي فرض غرامات على أولئك الذين يتعاملون في التِّجارة غير المشروعة لموارد السُّودان، ونقترح أن تضاف عائدات الغرامات أيضًا إلى صندوق استقرار السُّودان.
علاوة على ذلك، على الولايات المتَّحدة والاتِّحاد الأوروبي والمملكة المتَّحدة، وغيرهم من الدّول، الإفراج عن عوائد الأصول المجمَّدة للأفراد السُّودانيين والكيانات الخاضعة للعقوبات. كما ينبغي ابتكار استراتيجية واضحة، بانخراط الشركاء العالميين أيضًا، بحيث يمكن استخدام هذه الأموال في تمويل برامج المساعدات الإنسانية مباشرة.
والأهمّْ من ذلك، يتعيِّن على الجِّهات الفاعلة العالمية أن تُنشئ، وبأثر فوري، أنظمة لفرض غرامات على جميع مرتكبي الفظائع والجَّرائم ضد البلاد، وبنيتها التَّحتية، وضد المدنيين، وخاصة التي تشمل ضحايا الاغتصاب، والاستعباد، والتَّعذيب، والقتل. ويجب إيداع عائدات هذه الغرامات في صندوق استقرار السُّودان المقترح لاستخدامها في تعويضات الأفراد المتضرِّرين وآليات جبر الضرر.
بالإضافة إلى ما سبق، وللحفاظ على كرامة ورفاهية السُّودانيين، يُلتمس من المنتدى المزمع انعقاده أن يعمل على إنشاء بروتوكول هجرة للسُّودانيين على غرار البروتوكول الخاص بأوكرانيا. أما فيما يلي الدول العربية والإسلامية، فإن تطبيق مذهب “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن” يعتبر المرجعية الحاكمة أو “خذ الإجارة بقوة”.
أخيرًا، يمكن للولايات المتَّحدة وشركائها العمل مع الاتِّحاد الأوروبي لمراجعة “عملية الخرطوم” (the Khartoum Process)، وتعويض الشَّعب السُّوداني عن معاناته؛ بسبب تقوّية وتعزيز مقدرات قوّات الدَّعم السَّريع وتمويلها لمحاربة الهجرة منذ العام 2016 م.
التَّوصيات الباحثة عن مضارب للحل السِّياسي
أولًا: بدء عملية استشارية شفَّافة، ليس مع مجموعة فرعية فقط، ولكن مع جميع أصحاب المصلحة السُّودانيين، وذلك عبر مسارات موازية، بهدف توسيع المشاركة وإظهار التزام حقيقي بتنازل العسكريين عن السُّلطة وتسليمها إلى المدنيين الوطنيين من ذوي الكفاءات والخبرة.
ثانيًا: توحيد منصّات الوساطة.
ثالثًا: إنشاء مسار دبلوماسي موازٍ، ومنفصل عن محادثات وقف إطلاق النّار، يركِّز على معالجة العنف ضد المدنيين، مع تدابير تستهدف حماية المدنيين، وخاصة النِّساء.
رابعًا: يتعيِّن على الولايات المتَّحدة والشُّركاء الدّوليين إحالة كافة العمليات المتعلّقة بقضايا الدّولة ونظام الحكم إلى الشَّعب السُّوداني. ومن الطَّبيعي أن تندرج القضايا المتعلِّقة بالعدالة ضمن ذلك الإطار.
المصدر: صحيفة التغيير