رسالة محمد نجيب وخريطة تمزيق السودان
رسالة محمد نجيب وخريطة تمزيق السودان
أحمد إبراهيم أبوشوك
توطئة
توقفت عند الخارطة التي نشرها اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر بعد سقوط الحكم الملكي، في كتابه الذي عنونه “رسالة عن السودان” ونشره عام 1954، وكتب تحتها: “مشروع تمزيق السودان الذي أعده الإنجليز”، وكنت حريصا على سماع الآراء حول هذه الخارطة، قبل التعليق عليها نفسها، ووضعها في سياقها التاريخي، والبحث عن المسوغات الكامنة وراء إنشائها، ثم ربطها بالراهن السياسي في السودان بعد حرب 15 أبريل/نيسان 2023. وقد رأيت أن الآراء حولها تباينت وفق التصنيفات الآتية.
وصفت المجموعة الأولى الخريطة بأنها مستنسخة من خريطة التقسيم الإداري لمديريات السودان الإنجليزي المصري (18981956).
ربطت المجموعة الثانية الخريطة بفكرة المؤامرة الرامية لتقسيم السودان قديما وحديثا.
أرجعت المجموعة الثالثة فكرة التقسيم واجترارها الآني إلى عجز النخبة السياسية الذاتي وفشلها المتراكم في إدارة التنوع الثقافي والاقتصادي والاجتماعي في السودان، وتوظيفه لبناء دولة وطنية تتساوى فيها حقوق المواطنين وواجباتهم، وتسود فيها الحريات العامة وحكم القانون.
نظرت المجموعة الرابعة إلى الخريطة من زاوية أنها قد أقرت شرعية السودان على مثلث حلايب، وأضافت أجزاء من إريتريا إلى شرق السودان في إطار مشروع التقسيم المزعوم، ووضعت مديريات جنوب السودان الثلاثة في إقليم واحد.
ربطت المجموعة الخامسة بين خريطة نجيب وبين مثلث حمدي، وراهنت على ضرورة تطوير السودان في إطار دولة متجانسة ديموغرافيا، باستثناء الأقاليم الطرفية النافرة، التي لها الحق في تقرير مصيرها.
بعيدا عن هذه القراءات الافتراضية، يهدف هذا المقال إلى معالجة مشكلة خريطة اللواء محمد نجيب (وقد كان في رتبة بكباشي وقت كتابة محتوى كتابه “رسالة عن السودان”) في ضوء الأسئلة التأسيسية الآتية:
في أي سياق سياسي أنشئت خريطة اللواء؟
وما الهدف من وراء إنشائها؟
ولماذا نشرت مع مختارات من خطابات اللواء عام 1954؟
وما المقصود بجعل السودان هندا ثانية؟
وما علاقة هذه الخريطة بالصراع السياسي الراهن في السودان اليوم؟
خريطة نجيب في سياقها التاريخي
أعد اللواء محمد نجيب مذكرته المعروفة بـ “رسالة السودان عام 1943″، أي بعد عام من صدور مذكرة مؤتمر الخريجين العام التي طالبت بتقرير مصير السودان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (19391945)، وإشراك السودانيين في الوظائف السياسية، وإعطائهم مزيدا من الفرص في مجال الاستثمار الزراعي والصناعي، وإصدار قانون للجنسية السودانية، وفصل السلطات القضائية عن السلطات التنفيذية، وإلغاء قانون المناطق المقفولة والسماح للسودانيين بالتنقل بحرية داخل حدود دولة السودان، إلا أن دوغلاس نيوبولد، السكرتير الإداري (19391945)، قد رفض المذكرة ومطالبها، وطعن في شرعية تمثيل الخريجين للرأي العام السوداني.
وكخطوة استباقية لسحب البساط من تحت أرجل الخريجين أعلن السير هوبرت هدلستون، حاكم السودان العام (19401947) تأسيس المجلس الاستشاري لشمال السودان عام 1943. وعند هذا المنعطف انقسم الخريجون إلى معسكرين، أحدهما معسكر المحافظين، الذي حظي بمساندة السيد عبد الرحمن المهدي والأنصار، وأعلن تأييده لقيام المجلس الاستشاري، وثانيهما معسكر الاتحاديين، الذي حظي بمساندة السيد علي الميرغني والختمية والحكومة المصرية، وأعلن مقاطعته للمجلس الاستشاري للشمال، متعللا بأنه خطوة استباقية لفصل الشمال عن الجنوب.
في هذا المناخ السياسي أعد اللواء نجيب رسالته عن السودان، لكن الخريطة ربما تكون أضيفت لاحقا عند نشر الرسالة عام 1954، لأن النص التوضيحي الذي ورد في أسفل الخريطة: “خريطة مشروع أعده الإنجليز لتمزيق السودان على ولايات، تجعل منه هندا ثانية” تعطي إشارة إلى أن الخريطة قد وضعت بعد انفصال باكستان الكبرى (باكستان وبنغلاديش) عن الهند عام 1947، أي بعد كتابة رسالة نجيب عن السودان. إذا لماذا وضعت الخريطة في الكتاب، الذي صدر عام 1954؟
صدر الكتاب بعد عامين من قيام ثورة يوليو 1952، وبعد عام من تنصيب نجيب رئيسا لجمهورية مصر العربية (18 يوليو/تموز 1953). في تلك الفترة تم توحيد الأحزاب الاتحادية السودانية في حزب واحد باسم الحزب الوطني الاتحادي تحت رعاية مصرية، وأجريت الانتخابات البرلمانية الأولى لسنة 1953 تحت شعاري “وحدة وادي النيل”، و”السودان للسودانيين”، وفاز فيها الحزب الوطني الاتحادي بأغلبية بسيطة على غريمه حزب الأمة.
وفي ضوء هذه النتيجة اشتد الصراع بين دولتي الحكم الثنائي، إذ بدأت عملية الترويج لفكرة المؤامرة، وأن الإنجليز يسعون إلى فصل الشمال عن الجنوب ومحاربة فكرة وحدة وادي النيل. في ظل هذه الظروف صدر كتاب رسالة السودان. ويبدو أن الهدف من وضع الخريطة المشار إليها في كتاب رسالة السودان وخطابات نجيب الملحقة به الترويج لشعار “وحدة وادي النيل” على حساب شعار “السودان للسودانيين”، الذي حظى بمساندة البريطانيين.
لكن الخريطة في جوهرها لا تختلف كثيرا عن خريطة التقسيمات الإدارية للسودان الإنجليزي المصري، التي أخذت شكلها النهائي عام 1936. وتتمثل أوجه الخلاف في 4 أشياء:
أولها دمج مديرية الخرطوم في مديرية النيل الأزرق المشار إليها بالرقم (3).
وثانيها دمج المديريات الجنوبية الثلاث في إقليم واحد (6).
وثالثها إضافة أجزاء من مديرية أعالي النيل إلى مديرية النيل الأزرق (4).
ورابعها إضافة أجزاء من أريتريا إلى مديرية كسلا المشار إليها بالرقم (1).
ويبدو أن نجيب يقصد بقيام هند ثانية انفصال الجنوب عن شمال السودان، قياسا بانفصال باكستان عن الهند.
خريطة نجيب ومثلث حمدي
ينسب “مثلث حمدي” إلى عبد الرحيم محمد حمدي (19392021)، الذي شغل منصب وزير المالية والتخطيط الاقتصادي في أول عهد حكومة الإنقاذ (19892019)، وخرج من الوزارة عام 1993، ليؤسس شركة استشارية خاصة في مجال الاستشارات المالية والدراسات المصرفية، وبعدها أسس شركة الرواد للخدمات المالية، كما تقلد منصب رئيس مجلس إدارة سوق الخرطوم للأوراق المالية ورئيس مجلس إدارة بنك الاستثمار المالي.
وفي العام 2002 عين وزيرا للمالية والتخطيط الاقتصادي للمرة الثانية. ويقصد “بمثلث حمدي” المنطقة الواقعة بين دنقلا في الشمال وسنار في الجنوب الشرقي وكردفان في الجنوب الغربي. يرى عبد الرحيم حمدي في الورقة التي قدمها عن “الاستثمار الاقتصادي في السودان” في مؤتمر نظمه حزب المؤتمر الوطني الحاكم عام 2005، أن المنطقة المشار إليها جديرة بالتنمية الاقتصادية والاستثمار، لتحقيق الكسب السياسي الذي ينشده الحزب الحاكم آنذاك في أي انتخابات قادمة (1995). ويقول في هذا الشأن:
“إن القوة التصويتية التي ستحسم أي انتخابات قادمة (حوالي 25 مليون نسمة على الأقل)، هي في الشمال الجغرافي، ابتداء من الولايات الشمالية حتى سنار، الجزيرة والنيل الأبيض، وهي الأكثر تدربا على الانتخابات، والأكثر استجابة للمؤثرات الخارجية، والأكثر وعيا بحكم التعليم الطاغي في مناطقهم. وهي بموجب هذا التعليم والوعي الأكثر طلبا للخدمات والإنتاج وفرص العمل، ولهذا فإن التركيز لا بد أن يكون هنا بالضرورة، ومن حسن الحظ أن هذه المناطق قريبة وسهلة للوصول، لأنها جميعا مربوطة بشوارع أسفلت أو وسائل اتصال جوي.
ولهذا فإن إدارة حملات انتخابية سيكون أسهل وأسرع وأوفر. إن الجسم الجيوسياسي في المنطقة الشمالية المشار إليها أعلاه، وسأطلق عليه اختصارا (محور دنقلا سنار كردفان) أكثر تجانسا وهو يحمل فكرة السودان العربي الإسلامي بصورة عملية من الممالك الإسلامية القديمة قبل مئات السنين، ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسي عربي إسلامي يستوعبه.
وهو أيضا الجزء الذي حمل السودان منذ العهد التركيالاستعماري وعهد الاستقلال، وظل يصرف عليه، حتى في غير وجود النفط، ولهذا فإنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون (إن لم يكن سياسيا فاقتصاديا عن طريق سحب موارد كبيرة منه) فإن لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة، حتى إذا ابتعدت دارفور، رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور حتى لو انفصلت أو ابتعدت سياسيا”.
يعكس هذا النص المقتبس أعلاه أن وصفة حمدي كانت ذات طابع سياسي متعلق برؤية حزب المؤتمر الوطني الحاكم في بسط نفوذه الانتخابي من بوابة الاستثمار الاقتصادي والسياسي داخل مثلث حمدي، افتراضا بأن الاستثمار بشقيه سيحقق للحزب الحاكم بقاء مستداما في السلطة، ولا علاقة لها بخريطة نجيب، ولا أظن أن حمدي قد اطلع على كتاب نجيب “رسالة عن السودان”، لكن نقطة الالتقاء بينهما تتمثل في أن مثلث حمدي يرمز إلى المنطقة التي أشار نجيب إليها بالرقمين (2 و3)، وأعطاها تظليلا متجانسا، ويشكل التظليل المتجانس بؤرة رؤية حمدي، التي لا تلتفت إلى المديريات (دارفور وكسلا وكردفان ومديريات الجنوب الثلاث) الخارجة عن نسيج تجانسها حتى لو أفضى الأمر إلى انفصالها.
التصدع الذاتي والهوس بفكرة المؤامرة
يلحظ القارئ المتمعن في تاريخ السودان الحديث أن الفضاء الجغرافي الذي يعرف بالسودان بحدوده السياسية المعلومة بدأ يتشكل بعد غزوه من قبل محمد علي (حاكم مصر) عام 1821، وبلغ منتهاه في ظل الحكم الإنجليزيالمصري، وتحديدا بعد ضم دارفور إلى دولة الحكم الثنائي عام 1916. لكن هذا لا ينفي أن البريطانيين قد ابتدعوا سياسة المناطق المقفولة التي أسهمت في توسيع الشقة بين شمال السودان وجنوبه، وقبل إعلان الاستقلال عام 1956 اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان، واستمرت 17 سنة (19551972)، ثم اشتعلت مرة أخرى عام 1983، وأفضت في خاتمة المطاف إلى اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) سنة 2005، التي مهدت الطريق لانفصال الجنوب عام 2011 وقيام دولة جنوب السودان المستقلة.
يتفق معظم الباحثين الأكاديميين على أن سياسة المناطق المقفولة كانت واحدة من الأسباب التي عمقت جذور الصراع بين الشمال والجنوب، لكن أساس المشكلة يكمن في سوء أداء الحكومات الوطنية التي أعقبت الاستقلال، وفشلها في إدارة التنوع الثقافي والعرقي والاقتصادي في السودان، الأمر الذي أفضى إلى تحول الحركات المطلبية في المديريات (الولايات) الطرفية إلى حركات مسلحة في مواجهة السلطة الحاكمة في الخرطوم.
إذا الحديث عن فكرة المؤامرة وتفتيت السودان لخدمة مصالح دول خارجية هو افتراض لا يمكن نفيه بتاتا، لكنه في الوقت نفسه يعكس مدى ضعف وعي النخب السياسية السودانية، التي فشلت في تقييم واقع بلادها بشكل إستراتيجي يهدف إلى تحديد عناصر قوة تنوعها الطوبوغرافي ووفرة مواردها الطبيعية، وعناصر ضعفها المتجسدة في سوء إدارة هذه الموارد البشرية والطبيعية، كما أنها لم تكترث إلى المهددات العسكرية النابعة من سوء إدارة المركز للولايات الطرفية من ناحية التنمية المتوازنة، وتعزيز روح الوحدة الوطنية، وترسيخ قيم الممارسة الديمقراطية.
أما استغلال الفرصة المتاحة فيحتاج إلى تأهيل للقوى البشرية، ثم توظيفها في استثمار الموارد الطبيعية للنهوض باقتصاد السودان، وإخراج البلاد من ثلاثية الجهل، والمرض، والفقر، بعيدا عن صراعات الخصومات الأيديولوجية والطائفية التي أقعدت الوطن عقودا.
إذا الحديث المتكرر عن فكرة المؤامرة الخارجية المجرد من وضع الاحترازات السياسية اللازمة حديث انهزامي، يعكس طرفا من أعراض التصدع الذاتي الذي تعاني منه النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة.
خريطة نجيب والراهن السياسي في السودان
إذا جردت خريطة نجيب من حمولاتها السياسية فهي لا تختلف كثيرا من ناحية التقسيمات الإدارية الداخلية عن خريطة السودان الإنجليزيالمصري بعد عام 1936. لكن السؤال المحوري الذي يطرح نفسه: كيف يمكن توظيف هذه التقسيمات الإدارية توظيفا إيجابيا في فترة ما بعد الحرب المدمرة، التي أخذت بتلابيب العاصمة الخرطوم وولايات دارفور.
يجب أن تكون الأقاليم الستة: الشرقي (1)، والشمالي (2)، والخرطوم (3)، والأوسط (4)، وكردفان (5)، ودارفور (6)، أساس التقسيم الإداري لإعادة هيكلة نظام الحكم الفدرالي وتفعيله في السودان، ليكون قادرا على الإيفاء باستحقاقات فترة ما بعد الحرب، لأن النظام الفدرالي يسهم دائما في توسيع دائرة المشاركة السياسية والإدارية، وفي توازن توزيع الموارد المالية بين وحداته الثلاث (المركزية، والإقليمية، والمحلية)، ويساعد في تعزيز التنمية المتوازنة، والنهوض الاقتصادي، والارتقاء بالخدمات العامة، إذا توفرت له الإدارة والإرادة البشرية المؤهلة فنيا ومهنيا.
يضيف دونالد ل. واتس، عالم السياسة الكندي، إلى جانب هذه المزايا العلاقة التبادلية بين “الوحدة والتعددية”، التي يعززها تطبيق النظام الفدرالي، لأنه يعترف بالهويات الثقافية والاجتماعية في مناسيبها الدنيا (المحلية)، ويعزز تفاعل مشتركاتها على المستوى القطري. وإحداث مثل هذه النقلة النوعية يحتاج إلى دستور يحدد شكل نظام الحكم الفدرالي، ويقنن علاقاته الرأسية والأفقية واختصاصاته المحلية والإقليمية والمركزية تخويلا لا تفويضا، ويستند إلى نظام ديمقراطي في تداول المناصب الدستورية، لإرساء دعائم الشفافية القائمة على المحاسبة السياسية والإدارية والتقويم والتطوير المستمرين.
ويحتاج إصلاح النظام الفدرالي في السودان إلى وصفات فنية ومهنية، وتنفيذ ميداني حاذق، يبدأ من المكونات الدنيا (المحليات)، ثم الوسيطة (الأقاليم)، ثم المركزية. وتقتضي عملية الإصلاح الانعتاق من المكايدات السياسية، وسلوكيات التخوين، والانشغال بهواجس الانقسام غير المنتجة إلى التعويل على السياسات المرتكزة إلى التخطيط الإستراتيجي الهادفة والتنمية المستدامة، والمعززة لبناء الوحدة الوطنية.
ربما نجد في تجارب الآخرين حافزا معنويا على ذلك، مثل قول بول كاغامي، الرئيس الرواندي، عندما عزا تقدم رواندا إلى أهل الأرض أنفسهم، وخاصة الشباب والنساء، “الذين سامحوا بعضهم بعضا (بشأن تجاوزات الماضي)، وأخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلادهم من خلال روح العمل والابتكار والوطنية كمفتاح للرقي والتنمية… فليس ذلك بسبب وجود الفاتيكان، أو الكعبة، أو البيت الأبيض، أو الإليزيه، أو تاج محل” في “حواكير” الهوتو والتوتسي.
لا جدال في أن رواندا قد نهضت من ركام حرب أهلية طاحنة، ولذلك نأمل أن يكون نموذج نهوضها حافزا للشباب من الجنسين، الذين يمثلون سواد الحاضر بتحدياته الراهنة، وكل المستقبل بآفاقه الواعدة، ويحلمون ببناء دولة، تلامس أطراف طموحاتهم المنشودة، وتوفر لهم أساسيات الحرية والسلام والعدالة.
المصدر: صحيفة التغيير