اوهاج م صالح

لقد استمعت الى اول خطاب القاه السيد محمد حسن التعايشي رئيس وزراء حكومة تأسيس الوليدة، وبصراحة صدمت من خطابه في شيئين. الشيىء الأول هو الطريقة التي القى بها الخطاب، وكان الرجل يتحدث بعنترية وكأنه في ركن من اركان نقاش الجامعة التي غالبا ما يشوبها المهاترات واستفزاز الخصوم، وهذه الطريقة قطعاً لا تليق بمقام هذه الوظيفة الرسمية والمحورية أو أي وظيفة اخرى بهذاالثقل. الشيء الثاني والذي كان اكثر غرابة هو الروح العدائية التي ابتدر بها حديثه ولم يكن موفق فيها على الإطلاق. فإقحام قضايا خلافية في أول خطاب لرئيس وزراء دولة وليدة، أو لنقل حكومة بديلة لحكومة الأمر الواقع الحالية في بورتسودان، خطاب مهم ويستمع اليه جميع دول العالم والمنظمات والهيئات التي يهمها الشأن السوداني، وعلى اساسه تبني هذه الدول والجهات رؤيتها وقراراتها، اذا كانت في الأساس تنوي اقامة أي علاقات مع هكذا حكومة. إن اقحام السيد التعايشي موضوع الحدود مع مصر ودول الجوار، وفي هذا التوقيت، يعتبر خطأ استراتيجياً جسيماً، وقد يؤدي الى رد فعل معاكس في الإتجاه وقد يكون اقوى في المقدار. فهل يا ترى السيد التعايشي حسب حسابه وعلى استعداد ومقدرة لمواجهة مآلات انفعالاته وتهوره في الخوض في مواضيع خلافية ليس هذا وقتها؟

موضوع الحدود هو موضوع شائك ولكنه في الوقت نفسه يجتمع كافة السودايين حوله، عدا الكيزان اعداء الشعب والوطن والمتسببين الأساسيين في موضوع الحدود، وهم على استعداد للتنازل عن جميع الحدود في سبيل استرداد عرشهم المفقود، اما بقية الشعب السودان فموقفه واضح وثابت، ولكن لكل شيء وقته. وهنا لابد لي من انتهاز هذه الفرصة واسترشد برائعه أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي تناول فيها قصة إحدى العصافير وهي تعلم ابنها الطيران، فيقول فيها:

رأيتُ في بعضِ الرياضِ قُـبَّرَةْ تُطَيِّرُ ابنَها بأَعلى الشَّـجَره وهْيَ تقولُ: يا جمالَ العـُشِّ لا تعتَمِدْ على الجَناح الهَشِّ وقِفْ على عودٍ بجنبِ عودِ وافعل كما أَفعلُ في الصُّعودِ فانتقلَت من فَننٍ إلى فَنَنْ وجعلتْ لكلِّ نقلة ٍ زمنْ كيْ يَسْتريحَ الفرْخُ في الأَثناءِ فلا يَمَلُّ ثِقَلَ الهواءِ لكنَّه قد خالف الإشـاره لمَّا أَراد يُظهرُ الشَّطارهْ وطار في الفضاءِ حتى ارتفعا فخانه جَناحُه فوقعـا فانكَسَرَتْ في الحالِ رُكبتاه ُ ولم يَنَلْ منَ العُلا مُناهُ ولو تأنى نالَ ما تمنَّـى وعاشَ طولَ عُمرِهِ مُهَنَّـا لكلِّ شيءٍ في الحياة وقتـهُ وغاية ُ المستعجلين فـوته

وهذه القصة تنطبق على كل من يستعجل في أموره. والعَجُول كثيرُ الوقوع في الخطأ، قليلُ التقدير لعواقب الأمور، ومن كلام الحكماء: «إياك والعجلة، فإنها تكنّى أم الندامة، لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويحمد قبل أن يجرب ولن تصحب هذه الصفة أحدا إلا صحب الندامة وجانب السلامة.

فإن الخطأ الذي وقع فيه السيد رئيس مجلس وزراء تأسيس، محمد التعايشي، هو نفس خطأ هذا العصفور، وكذلك عين الخطأ الذي وقع فيه رئيس الوزراء الأسبق، الدكتور حمدوك، عندما زار القاهرة، واستدرج بسؤال مخابراتي خبيث عن بعض الملفات، وكان رده ” لقد حان الآوان البحث والتحدث عن حلول لبعض القضايا المسكوت عنها” أو بهذا المعنى (ويقصد بذلك موضوع حلايب). وكان رد الدكتور حمدوك بتلك الصغية هو الشرارة بل القشة التي قصمت ظهر بعير الحكومة الفترة الإنتقالية وقضت على اخضر ويابس السودان برمته. حيث انه ومنذ ذلك اليوم وجميع دول الجوار التي يعنيها الأمر ظلت تعمل بتناغم تام مع الكيزان والعسكر، لإفشال الحكومة الثورة التي لا محالة ستقود الى الديمقراطية التي ستفتح جميع الملفات المسكوت عنها.

الآن نصيحتى للأستاذ التعايشي، ان ينسى انه لا زال طالبا في الجامعة ويعد ويلقي خطاباته بروية وهدوء, ويفضل ان يفرغ نفسه لمدة اسبوع يستمع خلاله الى طرق القاء خطابات رؤساء الحكومات المرموقة ويضبط نبرات وايقاع خطاباته عليها. فمثلاً، خطابات الدكتور عبد الله حمدوك، الهادئة، فيها كاريزما وتليق بمقام رئاسة الوزراء، وان كان يعاب عليها ضعف النبرة، إلا انها بدون شك افضل مليون مرة من خطاب السيد التعايشي.

انا لا زلت اتذكر المقابلات التي تجرى مع السيد التعايشي وهو كان الناطق الرسمي بإسم لجنة اتفاقية سلام جوبا، فكان هذا الرجل يطمئن الناس بإستمرارعلى سلامة سير مناقشات ومداولات الإتفاقية وان جميع المجتمعين يعملون في تناغم تام، وان تلك الإتفاقية التي تجري في جوبا هي أفضل اتفاقية مرت على السودان. واذا بالمحصلة النهائية يكون اطراف تلك الإتفاقية والذين اخذوا كل شىء ولم يقدموا للوطن أي شيء، هم المتسببين الأساسيين في اشعال هذه الحرب الخبيثة ودعوا في اجتماعهم المشؤوم، اجتماع الموز، العسكر الى الإنقلاب على حكومة الفترة الإنتقالية ( الليلة ما بنرجع حتى البيان يطلع).

لذلك اقول اذا كان لابد للسيد التعايشي من الإستمرار في هذا المنصب، فيكون من الأفضل لحكومة تأسيس تشكيل لجنة خبراء تدرس خطابات السيد رئيس الوزراء التعايشي، قبل ان يبثها مباشرة في الفضاء، حتى يتم تشذيبها وضبطها. وان كنت أرى في الأساس، ان هذه المهمة كبيرة جدا على السيد التعايشي، لعدة اسباب منها قلة خبرته، وصفرية علاقاته الخارجية، ونشوته الشبابية غير الموضوعية والتي حتماً ستؤثر على جميع خطاباته. لذلك، كان من باب اولى لحكومة تأسيس ان توكل هذه المهمة لشخص مخضرم حصيف يحسب لكل كلمة حسابها ووزنها ومردودها على حكومته. وصراحة انا أرى ان السيد فضل الله برمه، بالرغم من تقدمه في السن كان اولى الناس بهذه المهمة في الوقت الراهن، لأنه رجل حتى هذه اللحظة تعتبر جميع خطاباته متوازنه وغير مصادمة مع أي طرف، حتى مع حزبه الذي انشق عنه وعن خطه، وسوف يلقى القبول الخارجي بطريقة اسرع.

اختم هذا الخطاب لأقول للأستاذ محمد الحسن التعايشي، رئيس وزراء تأسيس، ان الكلام وانت تتسنم هذه الوظيفة المهمة، بفلوس وليس مجاناً، وان تكلفته عالية جدا جدا، و الأمر ليس كما كنت تتحدث سابقاً في اركان النقاش. انت الآن تتحدث بإسم دولة أو حكومة، او سمها ما شئت، وأي كلمة تحاسب عليها وتجني حكومتك نتائجها، خيراً أو شراً.

لا للحرب ونعم للسلام. لا لتقسيم السودان، ونعم للوحدة.

اوهاج م صالح

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.