رحلة عبد الشافي الأخيرة .. إلى الداخل
قصة قصيرة
عمر الحويج
مهداة إلى : عمق الطرح في [شجرة نسب الغول] للصديق الراحل د/ عبدالله بولا كان ذلك .. يوم احتجبت الشمس ، قبل موعد غروبها المعتاد .. فحجبت الرؤية ، عن كل.. الفضاءات الرحبة .. والجميلة . كان ذلك .. يوم هبت ، تلك العاصفة ، الهوجاء .. واللعينة ، في غير موسمها .. فتساقطت، كل الأشياء التي كانت مستقرة .. بفعل : الجذور ، والتماسك ، والرضا. كان ذلك .. يوم ، الكارثة الكبرى في القرية ، التي كانت ، وادعة .. قبلاً. كان ذلك .. يوم غرقت ، مركب “الريس عبد الشافى” فانكفأ .. كل من فيها ، وما بها ، وما عليها لتبتلعه إلى حين ، مياه النهر ، الغاضبة .. على غير عادتها. حينها .. تمكن ، عبد الشافي ، وحده من إنتزاع العدد الأكبر ، من بين براثن الموج المتلاطم .. أما البقية ، فقد إنتشلهم ، الآخرون .. الآتون ، من كل فج : أتت بهم ، صيحة الخطر ، التي أطلقها ، عبدالشافي وردَّد صداها ، الجبل الرابض ، بمحاذاة الشط .. يؤدي فعله الأزلي في حراسة : النهر ، والناس .. والحياة. يومها .. خرج الكل ، إلى الشاطئ .. بضفتيه ، سالماً . ماعداه .. إلاه “الريس عبدالشافي” .. هو وحده الذي لم يعد ، إلى الشاطئ ، بأي من ضفتيه : سالماً ، أو .. غير سالم. رآه الجميع .. بأعين عليها غشاوة .. وهو يسبح عائداً إلى مركبه : تيقن بعضهم ، أنه ذهب ، ليعود ببقرته ، الأثيرة .. لديه التي كانت ، تسبح بجانبه ، وهى مربوطة ، على حافة المركب. وحسبه آخرون ، أنه يود أن يلقي .. النظرة الأخيرة على مركبه الغارق .. حتى القاع ، في مياه النهر ، الغاضبة .. على غير عادتها. “يا .. عبد .. الشافي” : الصيحة الخطر .. أطلقها ، بعض الذين ، لا يزال في رئاتهم .. نَفَس ، برغم ما في عيونهم من غشاوة. “يا .. عبد .. الشافي” الصيحة الخطر .. الصوت والصدى : رددها ، الجبل الرابض في حراسه النهر ، والناس .. والحياة. “يا .. عبد .. الشافي .. “: الصيحة .. الصدى : وأنت ، تصارع أمواجك .. يا عبدالشافي .. ما زال ، يخترق أذنيك .. الصوت الأعلى والأقوى .. أنك تستطيع أن تميزه ، من بين جميع الأصوات. أنه صوت (حماد الطريفي) .. صديقك ، الأقرب والحميم لآخر المدى .. صديقك الذي أعطيته ، كل عقلك .. وإن لم تعطه إلا نصف .. قلبك. تلعبون ، كنتم .. شليل وين راح ختفوا التمساح . حين جاءتكم الصيحة : دائماً .. تلك التي يردد صداها الجبل .. هي ، الصيحة الخطر يا .. عبد الشافي ، أبوك راح .. أبوك .. ختفو التمساح..: أصل الحكاية بين عائلتنا ، والتمساح ، بدأت مع جدى .. يومها ، قال بعضهم أنهم، رأوه .. بأم أعينهم .. حين تمكن ، منه التمساح .. استلّ جدي ، سكينه من ذراعه .. وبأعصاب هادئة .. وباردة : أضافوا ، غرز جدى ، السكين في عين التمساح : وآخرون .. قالوا وهذه الرواية ، هي التي أصبحت متواترة أنهم ، سمعوا ، بآذانهم التي حتماً مصيرها .. الدود ، أن جدى .. تحادث : حديثاً طويلاً ومتبادلاً .. وليس هامساً ، ولا منفرداً .. مع التمساح ، وربما كان أيضاً .. مشوقاً ، فقد رأوا جدى .. مبتهجاً ، يلوح بكلتا يديه .. مصوباً بصره نحو صفحة المياه .. التي بانت صفحتين ، بفعل إنسراب التمساح على سطحها .. وأبوك ، يا عبدالشافي .. أخيراً ، تمكن منه التمساح : ضاع أبوك .. يا عبد الشافي .. وضاعت معه .. أحلامك ، وأحلامكم .. الطفلة ، أنت وصديقك من وقتها حماد الطريفي .. حين قرر الكبار ، أن تركب النهر .. سيراً على النهج ، والتوارث والتراث : كما قرر الكبار ، أن حماد الطريفي ، هو خير معين لك .. في هذا المجال .. وهكذا ركبتما ، النهر .. سوياً. ((يا .. عبد .. الشافي)) : الصيحة : الصوت : أنت .. خير ، من يعرف يا عبدالشافي : كنا ، دائماً .. لا تنتظر الغريق ، لأكثر من أسبوع حتى يكون ، انقضى شأنه .. ووارى الثرى جثمانه .. أما، أنت يا عبد الشافي .. ها قد فات زمان .. والناس تنتظر : على الضفتين .. والناس تنتظر على امتداد النهر .. والناس تنتظر على أحر من الجمر .. والناس تنتظر وأنت يا عبدالشافي حتى الآن ، لا أثر لك .. ولا بقرتك الأثيرة .. لديك . ومركبك متشبثة بقاع النهر .. ما زالت . وما زالت الناس.. من أين انشقت هذه الأرض ، وجاءت بكل هؤلاء الناس ، يا عبد الشافي؟؟.. منذ متى عرفك ، كل هؤلاء الناس يا عبد الشافي؟؟.. سألتك ، عشرات المرات .. وأنت تلتقي ، هؤلاء الناس : أيام الأسواق تلتقيهم .. أيام الأعياد ، تلتقيهم .. أيام الأحزان ، تلتقيهم .. هم غرباء ، عنا .. ولكن ، يعرفونك . أنت ، وحدك ، وبقرتك الأثيرة لديك.. يعرفونك حتى أنهم ، يسألون عنها .. إذا أنت بدونها ، التقيتهم .. لم تكن تجيبني ، أبداً .. لم تكن تجيبني .. يا عبد الشافي .. ولكني كنت أعرف .. كنت أعرف : حين ، كنت تأخذ ، بقرتك الأثيرة ، لديك .. والناس نيام. تخرجان معاُ .. والناس نيام تركبان النهر مرة ، وتسبحان مرات .. والناس نيام. تعودان معاً ، قرب أذان الفجر .. والناس نيام . تجلس منزوياً ، بقربها .. والناس نيام . تنظر إليك ، وتنظر إليها .. والناس نيام . تبكيان معاً .. والناس نيام . تتحاوران معاً .. والناس نيام.. والناس نيام .. والناس نيام . “يا عبدالشافي” : الصيحة ..
الصدى : ما زال ، صوت صديقك ، حماد الطريفي .. في أذنيك .. وأنت ، لم تصل بقرتك الأثيرة لديك ، بعد .. ما زلت ، تصارع الأمواج ، ولم تصل الأعماق .. بعد .. حماد الطريفي .. أسمع ، أو لا تسمع .. صديقي : أعطيتك ، قبلاً .. كل عقلي .. فخذ أخيراً ، والآن .. كل قلبي : كنت تعرف .. لا تعرف .. تعرف .. لا تعرف :
كنا نخرج معاً .. والناس نيام . خلف الجبل ، نجوب القرى والبلدان .. والناس نيام. نسائل : الأنس والجن والطير والحيوان .. والناس نيام . يأتيني : الصوت، والصدى ، والهاجس .. والناس نيام . جدي قال لأبي ، دون أن تعرف ، جدتي .. والناس نيام. أتوا ، بنا ، وكنا اثنين أختي .. وأنا والبقرة (تفرقنا أيدي سبأ) .. والناس نيام . يأتيني : الصوت ، والصدى . والهاجس .. والناس نيام . يقول جدي , لأبي .. والناس نيام . “إن أباك ، استولدك ، من ” أخته”.. والناس نيام . يأتيني : الصوت ، والصدى ، والهاجس .. والناس نيام. يقول ، أبي لي .. والناس نيام. “إن أباك ، استولده جدك ، من “أخته” والناس نيام .. والناس نيام .. والناس نيام .
“يا.. عبد.. الشافي”: الصيحة.. الصوت: فات زمان.. طويل ، يا عبد الشافي.. ولم تعد الناس.. تنتظر . على الضفتين: و.. لم تعد الناس.. تنتظر. على امتداد النهر: و .. لم تعد الناس .. تنتظر على أحر من الجمر : .. لم تعد الناس.. تنتظر وأنا ما زلت أعاود السؤال.. لماذا لم تتزوج؟.. يا عبد الشافي: يقولون جدك .. انفسخ، عقد زواجه ، في ليلته الأولى.. وأنت ، يا عبد الشافي ، لم تتزوج بعد. قال جدك للعجوز المسن ، لن أفسخه .. يفسخ جلدك.. وأنا يا عبد الشافي.. كنت أحسدك ، حين اختلس النظر ، إلى الجميلات ، عندنا.. وأراهن ، يختلسن النظر إليك.. وقتها ، ومع اندهاش الحاضرين ، وانبهارهم.. انفسخ جلد ، العجوز المسن.. عن آخره.. وأنت، يا عبد الشافي، لم تجبني .. أبداً . وأنا.. كنت أخاف، علينا.. من هذا اليوم، الأبغض .. يا عبد الشافي: يقولون.. لم يسترجع ، العجوز المسن ، جلده إلا بعد أن ، تنازل جدك، طائعاً مختاراً ، وفسخ العقد .
حين الدقات الأولى ، للدلوكة في أفراحنا.. يا عبد الشافي ، والجميلات عندنا.. يختلسن النظر إليك ، وأنا .. أختلس النظر إليهن .. يبدأ ، يأخذك الإستغراق كعادتك ، يبدأ.. بالرعشة الأولى.. في الأطراف.. تتصاعد فيك مع دقات الدَّلُّوكَة ، المتصاعدة. المتسارعة …. وفسخ جدك العقد ، إكراماً.. قال للحاضرين ، والتسامح .. وأنا كنت أريد لك ، أن تسقى.. بمائك أرضك.. كما فعل ، الأسلاف منك ، أبوك و.. و .. لتستقر بفعلك : الجذور والتماسك والرضا.. وجدك قالوا.. في ليلته تلك ، ركب النهر .. واختفى أياماً،. أو أعواماً.. لا أحد يذكر.. ثم عاد ، ومعه جدتك .. والرعشة في جسدك ، لا يوقفها.. إلا زغاريد الجميلات عندنا ، مع فتح الباب ، لتحية العريس ، من الآخرين .. ومنك ، أنت تحية النزيف.. ليس إلا.. والناس لا يعرفون .. وعلى ظهرك.. السياط .. والأصوات .. والهواجس.. وأنت ، يا عبد الشافي ، كالجبل عندنا.. لا يرتد منك ، غير الصدى . صدى السياط .. والأصوات .. والهواجس.. والناس .. لا يعرفون.. والجميلات ، ما زلن يختلسن النظر إليك .. وأنت لا تجيبني ، يا عبد الشافي .. وأسعد صباحاتك، تلك التي تعقب ليالى الفرح.. وظهرك النازف ، دماً.. وأنت ، تستعذب طعم الدم .., في جسدك : تستعذب طعم الدم .. تستعذب طعم الدم .. تستعذب طعم الدم .. “يا.. عبد الشافي”: الصيحة.. الصوت : وأنت .. ما زلت تصارع أمواجك ، يا عبد الشافي.. يأتيك من البعيد ، هذه المرة: الصوت والصدى ، والهاجس.. ظللت، طول عمرك الأخير .. منه تبحث عن شيء ، لا تعرفه . ولن تجده. بحثت عنه: وراء الجبل.. وأنت لا تعرفه.. ولن تجده. ما خلف النهر .. وأنت لا تعرفه.. ولن تجده. جبت القرى والبلدان .. وأنت ، لا تعرفه.. ولن تجده.
ما خلف النهر .. وأنت لا تعرفه.. ولن تجده. جبت القرى والبلدان .. وأنت ، لا تعرفه.. ولن تجده. سآلت ، الإنس والجن والطير والحيوان.. وأنت لا تعرفه.. ولن تجده. استعذبت طعم الدم , في جسدك .. وأنت لا تعرفه .. ولن تجده. جرب يا عبد الشافي ، أن تختار.. صارع أمواجك كي تختار.. وهناك ، عسى أن تعرف ، ما لا تعرفه.. وما تبحث عنه.. تجده. “يا عبد.. الشافي”: الصيحة.. الصدى: فات زمان.. وأطول، والناس ، لم تعد .. تنتظر: على الضفتين .. والناس ، لم تعد تنتظر على امتداد النهر.. والناس ، لم تعد.. تنتظر وأنا ، يا عبد الشافي .. سأظل ، أنتظر .. تأتي أو لا تأتي ، سأظل أنتظر .. برغم حكاوي ، الناس. سأظل أنتظر .
جاء بعضهم ، إلينا من البعيد ، وقالوا.. أنهم رأوك: وقد استبدلت السكين في ذراعك.. بالأقوى ، والأسرع للموت .. وشبكته على كتفك . بل تجرأوا، وزعموا ، أنك أصبت بعضهم.. وأخطأت آخرين .. وأنا سأظل، أنتظر. وجاء غيرهم ، وادَّعوا .. أنك: أصبحت ، عائلات بلا عدد .. وبقرتك الأثيرة ، لديك .. ملأت الأرض ، قالوا. ولم تعد ، في ٩حاجة، لأن تجوب بها ، القرى والبلدان .. وأنا سأظل ، أنتظر. وقال ، بعض الذين ، كانوا هناك ، يوم الكارثة الكبرى.. أنه لا بد ، أن تكون ، قد التهمتك ، وبقرتك الأثيرة ، لديك .. تماسيح النهر ، في ليلتك تلك ، المشؤومة .. وأنا سأظل ، أنتظر .. تأتي أو لا تأتي سأظل أنتظر . “يا.. عبد.. الشافي” : الصيحة.. الصدى : صارع أمواجك .. صارع أمواجك .. ها أنت ، الآن قد وصلت إلى الأعماق .. فلتبدأ ، يا عبد الشافي .. رحلتك الأخيرة إلى.. الداخل .
المصدر: صحيفة الراكوبة