شهدت العاصمة الأوغندية كمبالا العرض الأول لمسرحية «رحلة الشفاء والصيف » منتصف سبتمبر الماضي من إخراج مختار النور شرارة وبمشاركة الممثلين سجدة حسن، محمد الطاهر مامدو، إلى جانب مساعد المخرج أحمد هارون فيما تولى محمد الدون المؤثرات الصوتية والإضاءة.

التغيير: كمبالا فتح الرحمن حمودة

و كانت قد امتلأت القاعة بعدد من المثقفين والمهتمين السودانيين الذين تابعوا عملا مسرحيا مختلفا، و الذي اختار أن يواجه الحرب بالمسرح والسخرية السوداء.

و منذ اللحظة الأولى باغت العرض جمهوره بمشهد جثمان مجسم يحمل إلى خشبة المسرح كما لو كان يدخل إلى مشرحة و حوله بدأ الممثلون باللعب والسخرية ثم الحديث معه كشهيد مجهول الهوية يتجادلون حول من بدأ الحرب ومن أطلق الرصاصة الأولى و بينما تقول فتاة إلى جانب الجثمان مرددة: «أرزقي ولا عميل خاين ولا شريف؟» ليتصاعد التوتر مع دخول موسيقى غربية قبل أن ينتهي المشهد.

لكن خلف هذا البناء المسرحي يحاول النص الولوج إلى أعماق الشخصية السودانية ومن خلال شخصية منتصر «الجثة » يفتح النقاش حول التحول في وجدان الشعب السوداني الشاب ذلك الجيل الذي قاد ثورة سلمية ضد دكتاتورية العسكر فإذا به يتحول إلى فاعل في الحرب مع أطراف النزاع و يجد منتصر نفسه بعد الحياة وقبل الموت محاصرا بأسئلة: لماذا الانخراط في هذه الحرب؟ ولماذا يكرر الشباب الذين عرضوا أنفسهم للموت في ثورة سلمية التضحية ذاتها في حرب عبثية؟.

و في مشهد آخر عاد البطلان للرقص داخل المشرحة يتحدثان مع الجثمان و يتبادلان معه حديثا ساخراّ « راقد هنا عيار ناري، يلا دي يلقوها ليك كيف؟» ويبحثان عن الرصاص في جسده: «نباري مجرى الدم ولا مجرى النيل؟ » وتلمح الحوارات إلى أن معظم ضحايا المشرحة من الثوار الذين يختزل موتهم أحيانا في سبب وحيد هو الجوع.

ويقول مؤلف المسرحية مختار النور شرار لـ  « التغيير » أنه من خلال هذا النص أراد الدخول في شخصية الإنسان السوداني المحارب والمشارك في الحرب لأن كثير من الجنود دخلوا المعارك دون وعي و لا سياسة ولا ثقافة فقط وجدوا أنفسهم هناك و يضيف أردت أن أطرح السؤال: هل هناك جندي واعي بما يفعل أم أن الجميع يزج بهم بلا وعي؟ وكيف يمكن أن يبدأ النقاش الحقيقي حول الحرب والسلام؟.

و كانت قد قلبت المسرحية المشهد فجأة حين نهض «الجثمان» من موته مرحبا بالجمهور قائلاً مرحبا بكم في الرمق الأخير بصوت مشبع بالأسى واللوم حكى عن الثوار والتروس عن العبثية التي دفع ثمنها حياته وعن أب اكتشف أنه وراء ضياعه و حمل صرخته إلى أمه برسالة حزينة عن الثورة التي سرقت وعن ضرورة ألا يفقد الناس الأمل بقوله نحن قدامنا الصباح.

و لم يترك العمل الأم خارج دائرة الألم فقد دخل صوتها على الخشبة باكيا يا حليلك يا ولدي أقول لأولادك شنو؟ و هي تستعيد لحظات حياتها معه وتتحول إلى «حكّامة» سودانية ترمي سلاحها بالحزن وتروي الحكاية لتصبح الأم رمزا لوجع الوطن كله.

و ثم جاء مشهد آخر على إيقاع راب سوداني يجوب فيه البطل المشرحة متحدثا بلغة «الرندوك » ألف رحمة ونور عليك يا دفعة حقك ده حا نجيبو و يحاور صديقه الميت عن الشوارع التي سميت باسم الشهداء وعن قادة لم يتفقوا قبل أن يختم المشهد بعبارة: «ألف رحمة ونور عليك يا صحبي».

و لم تخل المشرحة من طبيبٍ يدخل ليتساءل: «يا منتصر مشكلتك إنك سوداني؟» في إسقاط على واقع بلد يقتل أبناءه ويعيد إنتاج صراعاته تحت أسماء جديدة فيما بدا وكأنه تعليق مباشر على الحالة العامة التي يحاول النص تفكيكها عبر شخصية الدكتور الشراح الذي يطرح سؤالا جوهريا لماذا يستمر الشباب في الموت لكن هذه المرة في حرب ضد بعضهم البعض؟

و ثم أطلت الحبيبة التي تصرخ من عمق قلبها وتبكيه بالدم لا بالدموع يحاورها صوت ساخر عن الشهادة والجنة لترد بغضب انت كافر؟ فيجيب أي كافر بالحرب ومؤمن بالسلام.

وبين اعتراف الزوجة بندمها على صمتها وحديث «الشراح» عن تاريخ السودان المثقل بالحروب كان الخط الذي جمع كل المشاهد واحدا لا للحرب، نعم للسلام، ولا بد من الأمل.

و علق المسرحي وليد الألفي في حديثه لـ « التغيير» على التجربة قائلاً :المسرحية فيها مجهود حقيقي وواضح أن الفريق عنده رسالة أراد أن يقولها فالعرض الأول كان بمثابة بروفة شبه نهائية لكنه أظهر انسجاما مع خبرتهم وقدرة على المضي قدما في تقديم المزيد.

و تعود المسرحية في ختامها إلى الجثمان وهو يحاور نفسه بمرارة: «أنا اتولدت في حرب، عشت في حرب، درست في مدارس الحرب حتى أدمنت الحرب عشان كده أنا عاوز الناس تنساني لأنه ده تاريخ مخجل.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.