في خطوة اعتبرها البعض محاولة جادة لإعادة تنشيط الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب السودانية، تحتضن العاصمة الأمريكية واشنطن، خلال يوليو الجاري، اجتماعًا رباعيًا يجمع وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات، اللقاء الذي يحمل عنوان “مبادرة الرباعية” يُعد التحرّك المنسق الأول الذي تقوم به الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب، لإنهاء الحرب السودانية المندلعة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع منذ أبريل 2023، لكن في مقابل الترقّب الذي يرافق الاجتماع، تتعالى الأصوات المشككة في أهدافه ومخرجاته، خاصة مع غياب أي تمثيل للأطراف السودانية، سواء من المكونات العسكرية أو المدنية، ويبرز سؤال محوري هل يمكن للرباعية، رغم ثقلها الجيوسياسي، أن تفتح أفقًا جديدًا للسلام في السودان دون أن يُستمع لصوت السودانيين أنفسهم؟
فجوة في شرعية المبادرة
في تصريح لافت، أكد مسعود بولس، مستشار الرئيس ترامب للشؤون الأفريقية والشرق أوسطية، أن “لا حل عسكريًا للصراع في السودان”، وأن واشنطن تتواصل مباشرة أو عبر وسطاء مع طرفي النزاع. لكن ما يثير الاستغراب أن الاجتماع المرتقب لا يضم أي ممثل عن الطرفين المتحاربين أو عن القوى المدنية السودانية. وهو ما يطرح تساؤلات حول فاعلية المبادرة وجدواها، خاصة في ظل سوابق فاشلة لمبادرات لم تشمل السودانيين، كمحادثات جنيف التي انتهت دون نتائج تُذكر.
الاجتماع الرباعي، بحسب مراقبين، يمثل اعترافًا غير معلن بأن المسارات السابقة مثل “منصة جدة” أو جهود الإيقاد لم تكن كافية أو فعّالة، إلا أن تجاهل إشراك السودانيين يُعيد إنتاج ذات النمط من الحلول الفوقية التي غالبًا ما تنهار سريعًا.

الأسباب والدروس

بالعودة إلى الوراء قليلاً تكشف سلسلة طويلة من المحاولات الفاشلة لوقف الحرب في السودان ولعل أبرز أسباب ذلك الفشل تعود الى عدم إشراك الأطراف المتحاربة بشكل مباشر أو فعّال، مما أضعف فرص تنفيذ أي اتفاق.
الى جانب تضارب المصالح الإقليمية والدولية، خاصة مع دخول لاعبين شرق أوسطيين يملكون أجندات متناقضة، وكذلك غياب آليات ملزمة للامتثال، كما حدث في محادثات جدة التي لم تُرفق بأي أدوات إنفاذ حقيقية.
ويبقى تهميش المدنيين، رغم أنهم من دفعوا أثمان الحرب والانقلابات، هو العامل الرئيسي الذي جعل الاتفاقات أشبه بصفقات بين الجنرالات، وليس حلولًا مجتمعية جذرية. أيضا التمويل الذاتي للحرب عبر الذهب والدعم الخارجي، وهو ما جعل وقف القتال صعبًا دون كبح هذه الموارد.

رؤى متضادة

كل دولة مشاركة في الرباعية تحمل أجندتها الخاصة تجاه السودان. الولايات المتحدة، ترى في السودان ملفًا مرتبطًا بمكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي، وقد لعبت أدوارًا مفصلية في إنهاء الحروب السابقة، لكنها اليوم تبدو أكثر ميلًا لإدارة الملف عبر حلفائها في المنطقة، لا عبر دعم مباشر للعملية السياسية الداخلية.
مصر، تعتبر السودان عمقًا استراتيجيًا، ويقلقها احتمال تمدد اللاجئين أو نفوذ الحركات الإسلامية، علاقاتها التاريخية بالجيش السوداني تجعلها منحازة له، وتسعى لتثبيت نفوذها في ترتيبات ما بعد الحرب.
السعودية، التي قادت مبادرة جدة مع واشنطن، تحوّل موقفها من الحياد إلى دعم الجيش، وتحرص على تأمين ساحل البحر الأحمر، ومنع تمدد نفوذ قوى معادية في المنطقة.
الإمارات، يُنظر إليها بوصفها داعمًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع عبر شبكات تمويل وتسليح غير رسمية، رغم نفيها المتكرر، وتُتهم بخوض “حرب بالوكالة” داخل السودان.
هذا التناقض بين المصالح يُلقي بظلاله على الاجتماع، ويُضعف فرص الخروج بموقف موحّد يمكن أن يشكّل أساسًا لأي اختراق دبلوماسي.

مأزق الشرعية والفاعلية
ما يجعل الانتقادات أكثر حدّة هو استبعاد المجتمع المدني السوداني، الذي لعب دورًا حاسمًا في ثورة ديسمبر 2018، ومن ثم في إسقاط شراكة العسكرالإسلاميين عقب انقلاب 2021. هذا الإقصاء المتعمد أو غير المكترث، يضع الرباعية في خانة المبادرات الفوقية التي تفتقر للملكية المحلية، ويجعل من مخرجاتها، إن وجدت، اتفاقات غير قابلة للتنفيذ على الأرض.
يشير تاريخ السودان القريب إلى أن كل اتفاق لا ينبع من داخل البلاد، أو لا يضم المدنيين، يُولد هشًا ومهددًا بالسقوط عند أول اختبار.

فرص محدودة

رغم هذه التحديات، يرى بعض المراقبين أن هناك مجالات ضيقة يمكن للرباعية تحقيق اختراق فيها، خاصة على المسار الإنساني، من بين تلك الفرص:
فتح ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية
توحيد الجهود الإقليمية بدل التنافس المدمر

توفير ضغط موحد على الأطراف لخفض التصعيد
لكن تظل احتمالات تحقيق سلام شامل ضئيلة ما لم تتغير قواعد اللعبة، ويتم إشراك السودانيين، لا سيما القوى المدنية النشطة مثل “صمود” و”تأسيس”، إلى جانب الكتلة الديمقراطية وغيرها، في صياغة المسار السياسي.

دوافع المرحلة

تشير التحليلات إلى أن إدارة ترامب تسعى لتحريك الملف السوداني لعدة أسباب، أبرزها:
سعي الرئيس ترامب للظهور كـ”رجل سلام عالمي”، قد يدفعه للبحث عن اتفاق رمزي.
تنامي القلق من تأثير الحرب السودانية على استقرار المنطقة، خاصة مصر والسعودية ودول الجوار الأخرى.
اهتمام جماعات ضغط أمريكية بوضع دارفور والفاشر، نتيجة لعلاقات تاريخية وجماعات ضغط نشطة.
تصاعد الأزمة الإنسانية، ما يُحرج الإدارة أمام الرأي العام الأمريكي

مخاطر محدقة
لكن الخطر الأكبر يكمن في تولّي فريق أمريكي لا يعرف الكثير عن السودان إدارة الملف، ما يجعل من قراراته، مهما كانت نواياه، عرضة للخطأ الكارثي. كما أن البيئة الإقليمية المعادية للقوى المدنية (مصر معادية، السعودية متحفّظة، والإمارات انتهازية) تُحاصر أي صوت ديمقراطي، وتدفع باتجاه تسويات تُعيد إنتاج ذات البُنى التي فجّرت الصراع.
هذا الواقع، المعقد يضع القوى المدنية السودانية أمام تحدٍ واضح يستوجب تحركًا سريعًا،لاغتنام فرصة التحرك الأمريكي، ومعلوم ثقل الولايات المتحدة وتأثيرها وقدرتها بالترغيب والترهيب على إحداث اختراق في المشهد المصطك، غير إن ذلك يتطلب تحركًا عاجلًا، بإيفاد وفد مدني إلى واشنطن للقاء مستشار ترامب، مسعود بولس، قبل انعقاد الاجتماع الرباعي، لنقل الرؤية المدنية حول كيفية وقف الحرب، وتنظيم زيارة استراتيجية إلى نيويورك في سبتمبر المقبل بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، لاستثمار الزخم الدولي وطرح الرؤية السودانية أمام الفاعلين العالميين.
لا سلام بلا سودانيين
إن السلام المستدام في السودان لن يُبنى إلا عبر عملية شاملة، تدمج القوى العسكرية والمدنية، وتستند إلى منصة موحدة ذات ولاية قانونية، ربما تحت مظلة مجلس الأمن. أما تجاهل أصوات الداخل، وخاصة المدنيين، فهو وصفة لتكرار الفشل، لا لتأسيس الاستقرار.
وحدها دبلوماسية شاملة، تُنهي الدعم الخارجي للحرب، وتُخضع الموارد المالية للمراقبة، وتفتح الباب أمام السودانيين لتقرير مصيرهم، هي التي يمكن أن تضع حدًا لنزيف البلاد.

أفق جديد

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.