منذ آلاف السنين ارتبط اسم السودان بالذهب ،بل إن كلمة “نوب” في المصرية القديمة المشتقة منها تسمية بلاد النوبة تعني الذهب. من ممالك كوش التي ازدهرت على ضفاف النيل، مرورًا بممالك النوبة المسيحية، وصولًا إلى العصر الحديث، ظل المعدن الأصفر ركنًا من أركان الهوية الاقتصادية والثقافية والسياسية للبلاد. لكن ما كان يومًا مصدر فخر ونفوذ، أصبح في العقود الأخيرة ساحة صراع سياسي وميداني، ومرآة لأزمات الحكم والاقتصاد في السودان.الذهب بعد النفط: شريان حياة مضطرب:
شكّل الذهب بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 المورد الأول للعملات الصعبة، بعدما فقدت الخرطوم ثلاثة أرباع عائداتها النفطية. اليوم يُقدَّر إنتاج السودان السنوي بنحو 100 طن حسب الاحصائيات الحكومية ، لكن الصادرات الرسمية لا تتجاوز 65 طنًا، ما يعني أن نصف الإنتاج يختفي عبر التهريب.
في عام 2024، سجّل السودان إنتاجًا رسميًا بلغ 64.4 طنًا بعائدات قاربت 1.6 مليار دولار، واضعًا البلاد في المرتبة الخامسة إفريقيًا. أما الاحتياطي المؤكد فيقدَّر بحوالي 533 طنًا، مع احتياطي محتمل يتجاوز 1100 طن.

ورغم هذه الأرقام المذهلة، يعيش الاقتصاد السوداني نزيفًا حادًا: تهريب منظم، فساد متجذّر، وتسييس للثروة يحول دون استفادة الشعب منها.

جغرافيا المناجم: ثروة موزعة وصراعات محتدمة
تنتشر مناجم الذهب في مختلف أنحاء السودان، من الشمال الصحراوي إلى دارفور غربًا والبحر الأحمر شرقًا. أبرزها:
• منجم هساي (أرياب): من أقدم وأكبر المناجم الصناعية، باحتياطات ضخمة في حزام أرياب الأخضر.
• بلوك 15 (قبقبة نهر النيل): من أبرز مناطق التعدين الأهلي، استحوذت عليه لاحقًا شركات مغربية وصينية.
• جبل عامر (شمال دارفور): ثالث أكبر منجم إفريقي، تحوّل منذ 2012 إلى ساحة اقتتال دموي بين القبائل والميليشيات، قبل أن يسيطر عليه “الدعم السريع”.
• بلوك 14 (صحراء النوبة): مشروع صناعي ضخم تطوره شركة أسترالية، يُنتظر أن يغيّر معادلة القطاع.
• سونغو (جنوب دارفور): يضم 12 منجمًا نشطًا في التعدين الأهلي، لكنه تأثر بالحرب ونقص الوقود.
هذه المواقع ليست مجرد رواسب معدنية، بل مراكز نفوذ سياسي وعسكري تتقاطع فيها مصالح محلية وإقليمية ودولية.
التهريب: اقتصاد ظل عابر للحدود :
يُقدَّر أن السودان يفقد مليارات الدولارات سنويًا بسبب التهريب.
• الإمارات كانت الوجهة الأولى تاريخيًا، وما تزال الوجهة الأساسية عبر قنوات غير رسمية.
• مصر أصبحت خلال السنوات الأخيرة منفذًا رئيسيًا، خاصة من ولايتي الشمالية ونهر النيل.
• تشاد بدورها محطة عبور، إذ تشير بيانات 2023 إلى أن صادراتها من الذهب للإمارات تفوق طاقتها الإنتاجية الحقيقية، ما يكشف أن الذهب سوداني الأصل.
كما يشير خبراء إلى أن تتبع مسار الذهب المهرب يكشف جذور الحرب وتمويلها. جرء من العائدات لا تدخل خزينة الدولة، بل تُغذّي صراعًا مسلحًا مستمرًا منذ أبريل 2023.
الذهب واللهب : وقود الصراع :
منذ اندلاع الحرب بين الجيش و«الدعم السريع»، صار الذهب الممول الأول للعمليات العسكرية.
• سيطرت قوات الدعم السريع على مناجم إستراتيجية مثل جبل عامر وسونغو، ما منحها استقلالًا ماليًا وعسكريًا.
• سعت الحكومة لتعويض الخسائر عبر اتفاقيات تصدير مع عمان وقطر ومصر، وإطلاق بورصة وطنية للذهب عام 2025، لكن هذه الخطوات قوبلت بانتقادات شديدة من مصدّري الذهب الذين وصفوها بأنها “كارثية” وتعيد الاحتكار والتهريب.
هكذا تحوّل الذهب من مورد وطني إلى وقود للحرب وتمويل للميليشيات، مما يضاعف معاناة المدنيين ويطيل أمد النزاع.

الوجه المظلم: البيئة والإنسان وراء البريق تختبئ مآسٍ صامتة:
. 1كارثة بيئية: التعدين الأهلي يستخدم الزئبق والسيانيد، ما يؤدي إلى تلوث المياه والتربة، وارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان والفشل الكلوي وتشوهات الأجنة.
.2 ظروف عمل مأساوية: يعمل أكثر من مليوني منقب في ظروف بدائية، معرضين لانهيارات آبار (الكرتة)، وساعات طويلة تحت الشمس، دون حماية أو حقوق.
.3 التنمية المفقودة: المناطق المحيطة بالمناجم تعيش تهميشًا مدقعًا، بلا خدمات أساسية، وكأنها تدفع ثمن الثروة بدلًا من أن تستفيد منها
الطريق إلى الاستفادة من الذهب حزمة توصيات:
تحويل الذهب من لعنة إلى نعمة يتطلب رؤية إستراتيجية شاملة:
• حوكمة وشفافية: ربط الأسعار بالسوق العالمية، وإلزام الشركات بالكشف عن إنتاجها.
• تقنين التعدين الأهلي: دمج المعدنين في تعاونيات مرخّصة، وتوفير بدائل آمنة للزئبق.
• تنمية محلية عادلة: تخصيص نسبة من العائدات لبناء المدارس والمستشفيات وشبكات المياه في مناطق الإنتاج.
• رقابة بيئية صارمة: منع استخدام المواد السامة وإعادة تأهيل الأراضي المستنزفة.
• تعاون إقليمي: مع مصر وتشاد والإمارات للحد من التهريب وضبط سلاسل التوريد.
• فصل الثروة عن السلاح: حماية المناجم من الميليشيات وربطها بمؤسسات الدولة الشرعية.

نخلص الي ان الذهب في السودان ليس مجرد معدن ثمين؛ إنه مرآة لواقع الدولة: ثروة هائلة تُبدَّد بين الفساد والتهريب والصراع المسلح. وبينما يحلم ملايين السودانيين البسطاء بفرصة تُغيّر حياتهم، تستحوذ قلة نافذة على العوائد وتستخدمها لبسط النفوذ .
[email protected]
9/9/2025
UAE

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.