ديمقراطية السودان بين كتائب الظل وشياطين الهجير
ديمقراطية السودان بين كتائب الظل وشياطين الهجير
د. عبد الوهاب الأفندي
في نوفمبر 2012، وفي أثناء مؤتمر نظّمه البرنامج الذي كنت أشرف عليه في جامعة وستمنستر عن الديمقراطية في بلدان الربيع العربي، ناقشت مع بعض أنصار الرئيس المصري محمد مرسي ما رأيته خطراً كبيراً على الديمقراطية في استراتيجية الرئيس القائمة على المواجهة. ولكن القوم كانوا على ثقةٍ كبيرةٍ من موقفهم، مؤكّدين أن إسقاط حكومة مرسي مستحيل، وأنه لن يحدث انقلاب، وإذا ما حدث فإنهم سيحركون الشارع ضدّه. قلتُ لمحدّثي: إذا كان الرئيس مرسي لم يستطع، وهو في القصر الجمهوري، أن يدافع عن مقرّ الإخوان المسلمين في القاهرة، فما الذي سيمكنه فعله من السجن؟.
أصبحت الإجابة معروفة بالطبع. ففي مصر، كما في كل تجارب ديمقراطيات الربيع العربي، كانت أخطاء المدافعين عن الديمقراطية دائماً العامل الحاسم في فشل التجارب. شمل ذلك انقسامات القوى الديمقراطية، وكذلك التطرّف في المطالب، وافتعال صراعات ومعارك في غير معترك، أدّت كلها إلى انهيار التجارب. وقد كانت ليبيا النموذج الأمثل لهذه الإشكالية، بعد أن كانت الثورة الوحيدة التي سبق فيها التصالح بين الثورة وأنصار النظام القديم نجاحها، فوزير العدل في نظام معمر القذافي هو رئيس المجلس الوطني الانتقالي الذي قاد الثورة، كما كان وزير دفاع القذافي القائد العسكري لمقاتلي الثورة. ولكن متطرفين أصرّوا على تطبيق قانون العزل السياسي المتشدّد في بنوده، ما أحدث انقساماً كبيراً في بلدٍ عرف بتجانس شعبه. في الوقت نفسه، أوجد رفض المليشيات التخلي عن السلاح ظاهرة الأحزاب المسلحة، وكانت النتيجة تمزيق النسيج الوطني، وإنتاج صراعاتٍ دمّرت الدولة. وأدّت حدة الاستقطاب السياسي في مصر أيضاً إلى تعمّق الأزمة، خصوصا في ظل تمسّك مرسي والإخوان المسلمين بأغلبية ميكانيكية ضيقة، والتمنع عن تقديم التنازلات المطلوبة لتعزيز الوحدة الوطنية.
لم يشذّ النموذج السوداني عن هذه الانحرافات، فقد لقيت الثورة السودانية دعماً شعبياً غير مسبوق، وانصاع حتى أنصار النظام السابق أمام الغضب الشعبي الواسع، راضين بالابتعاد عن الساحة في الفترة الانتقالية. وكان الدعم الإقليمي والدولي للحكومة الانتقالية غير مسبوقٍ في تاريخ السودان. ومع ذلك، كان الفشل الذي واجهه الانتقال غير مسبوق أيضاً. ويعود ذلك الفشل إلى عدة أسباب، أبرزها أن حدّة الاستقطاب فاقت ما شهدته الثورات العربية، وصحبها تطرّف في المواقف غير معهود في الساحة السودانية. ظلّ يتصاعد حتى أكل دعاته، فقد أدّى تنافس أحزاب تحالف الحرية والتغيير في أيها أكثر تطرّفاً وتشدّداً إلى انقسامات، كان من أبرزها انسلاخ الحزب الشيوعي من التحالف، وكيله التهم لحلفائه السابقين بالمهادنة والخيانة، واتّباع سياسات اقتصادية نيوليبرالية. ثم ظهرت “لجان المقاومة”، الشبيهة بالمليشيات الليبية، سوى أن سلاحها كان الطوب والحجارة والمتاريس والتخوين، فعزّزت منحى التطرّف. وقد وقعت بعض قوى الحرية والتغيير في شرك التطرّف، حين تعرّض من حاول منهم المشاركة في تظاهرة سلمية لاعتداء من لجان المقاومة في تلك الناحية، وكادوا يفتكون به. ومنذ ذلك الوقت، تعرّضت قوى الحرية والتغيير لشيطنة متصاعدة، قد لا تكون كلها مبرّرة، حتى أنني علّقت مرّة بالقول إن قوى الحرية والتغيير قد حقّقت في ثلاث سنوات ما استغرق من الإسلاميين ثلاثين عاماً، إلى درجة أنهم أصبحوا مكروهين لدى الرأي العام أكثر من الإخوان المسلمين. المشكلة الأهم في غفلةٍ عن هذا الوضع، وما زالوا يروْن أنفسهم ممثلي الشعب. ويذكّرني هذا بمقولة المنظّر السياسي الأميركي ليو شتراوس عن علماء السياسة في عصره، الذين وصفهم بأنهم كانوا مثل نيرون، مستغرِقين في العزف، بينما روما تحترق. وأضاف: “عذرُهم أنهم لا يدرون أنهم يعزفون، ولا يعرفون أن روما تحترق”.
تفضيل التحالف مع العسكر، و”الدعم السريع” تحديداً، على توسيع التحالف المدني ليضم القطاع الأوسع من القوى السياسية في البلاد، كان من الخطايا السياسية الكبرى
تكرّست هذه المشكلة، كما كرّرنا مراراً، في أثناء الفترة الانتقالية التي لم تنقلنا إلا إلى الخلف، في عدّة أخطاء أو خطايا، أولها صفقة تحالف الحرية والتغيير مع القيادات العسكرية، بما فيها قيادة مليشيا الدعم السريع، رغم مسؤولية هذه القيادات عن عملية الفضّ العنيف والدموي للاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، خصوصا في ظل الوحشية المفرطة التي نفّذ بها. شمل ذلك القتل المتعمد، والتنكيل، والاغتصاب وما يشتبه في أنه إغراق متعمّد لمعتقلين في النيل الأزرق. وقد ثبت أن قوات الدعم السريع وقيادتها كانت المسؤول المباشر عن هذه الكبائر. الخطيئة المرادفة كانت الاستقواء بما سمّي “المكون العسكري” على القوى المدنية المخالفة، وهو ما ارتبط بالخطيئة الثالثة المشار إليها أعلاه، وهي خطيئة خطاب التطرّف ورفض الحوار مع المكوّنات المدنية الأخرى، حيث لا قيام للديمقراطية بدون حوار، مع المخالفين قبل الأولياء.
تولدت عن التباري في التشدّد انقساماتُ أضعفت التحالف، ومزّقته بدداً، ما زاد اعتمادَه على “المكوّن العسكري”، خصوصا قيادة “الدعم السريع”، التي أصبحت جزءاً من “القوى المدنية”. فقد أصبح قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائباً لرئيس مجلس السيادة، ورئيس اللجنة الاقتصادية في الحكومة “المدنية”، وكذلك قائد الحوار الوحيد الذي انخرطت في القوى “المدنية”، وهو حوار جوبا مع الحركات المسلحة المتمرّدة على الدولة، والتي أصبحت بدورها بعد اتفاق جوبا، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2020، جزءاً من المكوّن “المدني”. لم تلبث هذه الحركات أن انشقّت عن التحالف خلال عام، حيث دعمت انقلاب رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، في عام 2021. ولم يقع الانقلاب إلا بعد انحسار الدعم الشعبي للتحالف “المدني” بسبب الانقسامات والأداء المزري في الحكم.
ولم يعد من الممكن إحصاء المرّات التي نبهنا فيها في مساهماتنا المتكرّرة هنا على صفحات “العربي الجديد”، وفي المقابلات التلفزيونية، أو على وسائط التواصل الاجتماعي، أو مباشرة مع الأصدقاء من قيادات “الحرية والتغيير” ممن كانوا يقبلون الاستماع، إلى المهلكة التي أدّت إليها أم الخطايا، وهي تفضيل التحالف مع العسكر، و”الدعم السريع” تحديداً، على توسيع التحالف المدني ليضم القطاع الأوسع من القوى السياسية في البلاد. وقد تبع هذه الخطيئة بالضرورة نسيان حكومة عبدالله حمدوك تماماً أنها انتقالية، وأن الانتقال هو نحو الديمقراطية. ولبّ هذه المهمة تمهيد الطريق إلى الديمقراطية بإجراءات معلومة، تتمثل في توسيع الحرّيات، وإنجاز المهام التحضيرية بالتوافق على دستور، وسنّ قوانين للانتخابات والعمل الحزبي، … إلخ. إلا أن الحكومة “الانتقالية” فهمت أن دورها يتلخّص تمكينا مضادّا، يكون صورة منعكسة في المرآة لما قام به الإنقاذيون في السودان منذ عام 1989، أي استدامة سلطة التحالف، وإغلاق طريق الحكم أمام منافسيه.
أدّى تنافس أحزاب تحالف الحرية والتغيير في أيها أكثر تطرّفاً وتشدّداً إلى انقسامات، كان من أبرزها انسلاخ الحزب الشيوعي من التحالف
وعليه، لم تتّخذ حكومة حمدوك، طوال فترة حكمها، أي خطوة ملموسة تقرب البلاد من الديمقراطية مما ذكرنا أعلاه، أو على الأقل تعد بذلك، بما في ذلك توسيع الحوار حول الانتقال وشروطه. بل انهمكت في إجراءات عكسية، مثل إغلاق صحف ومحطّات تلفزيونية، واعتقالات ومصادرات وإغلاق أعمال تجارية ناجحة، وحتى جمعيات خيرية ومدارس، ما كان له أثره السلبي على الاقتصاد المتردّي أصلاً.
أصبح هذا كله بالطبع من الماضي، ولكنه يرتبط بحاضرنا وظروف الحرب والاستقطاب، خصوصا أن خطاب قيادة الانتقال ظلّ ينسِب فشل الفترة الانتقالية إلى تجذّر أنصار نظام عمر البشير في الحكم. لم يحدّد الخطاب الخطوات الديمقراطية التي عوّقتها تلك القوى الخفية، علماً أن السلطات التشريعية كانت محظورة في المجلسين، والتنفيذية كانت حصراً في يد الحكومة المدنية. وكان بإمكان رئيس الوزراء اتخاذ خطوات منفردة بمعزل عن المجلسين، كما في استدعائه بعثة الأمم المتحدة إلى السودان، فهل رفض المجلسان مشروع قانون لإنشاء مفوضية انتخابية أو قانون انتخابي أو لتعزيز حرّية التعبير والتنظيم؟ ثم ما هي الجهة التي عوّقت المشاريع الاقتصادية العظيمة التي شرعت الحكومة الانتقالية في إنشائها؟ وإذا وُجدت، لماذا لم يتم استبعادها فوراً؟ فقد كانت الحكومة ولجنة تمكينها تفصل من تشاء وتصادر أموال من تشاء، بمجرّد الاشتباه بموالاة النظام السابق. كانت الحكومة أيضاً تامر بحلّ المؤسّسات العسكرية والمدنية، وتفصل من تشاء من ضباط الجيش، أيضاً بمجرّد الشبهة. ألم يكن الأوْلى فصل من تأكد أنه يعوق مشاريع الحكومة البنّاءة إن وُجد؟ ومن المذنب في في هذه الحالة؟
في واقعنا الماثل، طُوّرت سردية جديدة، أن “طرفاً ثالثاً” أشعل الحرب المستعرة اليوم، وأن مليشيا وقعت ضحية له، فقد استدرجت المليشيا إلى مقاتلها، وهي والجيش غافلان. وقد زاد الخطاب الموحد للمليشيا وقيادات الحرية والتغيير أن ما ولغت فيه المليشيا من فظائع من احتلال لمنازل المدنيين ونهب ممتلكاتهم وعمليات اغتصاب وتعذيب وتنكيل وامتهان، تولّته جهات “مجهولة” يرتدي بعضُها زيّ قوات الدعم السريع!
لولا يقظة قيادة الحرس الجمهوري لكان انقلاب حميدتي نجح، وكان قادة الحرية والتغيير اليوم يحكمون تحت أعين السلطان حميدتي وبأمره
المؤكّد أنه، حتى بحسب روايات أبواق المليشيا، أن الجيش فوجئ بالحرب، كما يظهر من اعتقال مفتش عام الجيش وهو ينتقل إلى مقرّ عمله صباح السبت في سيارة مدنية. شهدت قيادات من الحرية والتغيير كانت تهاتف قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حتى الثامنة من صباح السبت أنه فوجئ باندلاع الاشتباكات. وهناك إجماع على أن المليشيا باغتت البرهان بالهجوم على مسكنه في القيادة العامة، ومحاولة قتله. ولولا يقظة قيادة الحرس الجمهوري الذي كان أعدّ لمثل هذه الحالة عدّتها، لكان انقلاب حميدتي نجح، وكان قادة الحرية والتغيير اليوم يحكمون تحت أعين السلطان حميدتي وبأمره، يحدّثوننا عن الديمقراطية.
ولم تكن عند أحد مروّجي أسطورة الطرف الثالث إجابة عندما سئل في مقابلة إعلامية لماذا كان ردّ “الدعم السريع” على الهجوم المزعوم على مواقعه في المدينة الرياضية جنوب الخرطوم بمهاجمة القيادة العامة للجيش، بدلاً من التصدّي للقوة التي هاجمتهم. ونحن نضيف، لو كانت قصّة الهجوم هذه صحيحة، فلماذا لم تأسر المليشيا واحداً على الأقل من المهاجمين، أو تصوّر القتلى وتحقق في هويتهم، حتى نعرف بالضبط من هو هذا الطرف الثالث؟ والإجابة لأن هؤلاء المهاجمين كانوا بالفعل أشباحاً خفيّة، لا وجود لها.
السؤال الأكثر أهمية بشأن السردية التي يروّجها أنصار المليشيا أن الجيش السوداني هو في الواقع مليشيا إخوانية، وأنه مدعوم بما سمّيت “كتائب الظل”، وهي مليشيات إسلامية من خارج الجيش. وهي سردية لو صحّت تطرح سؤالاً بشأن مطالبة أصحاب المصلحة بإيقاف فوري للقتال بين الجيش والمليشيا التي شهد العالم كله على فظائعها. ألا يعني هذا أن الوقف الفوري للقتال، والتفاوض حول مستقبل السودان عبر هذين الطرفين تصبح محيّرة، وهما من جهة مليشيا “كيزانية” تتكوّن بالأساس من المتطرّفين الدينيين والقوى “الإرهابية”، ومن جهة أخرى، مليشيا إجرامية ارتكبت وترتكب فظائع يشيب لها الولدان. فعلى ماذا، يا تُرى، ستتفق مليشيا الإبادة الجماعية وإرهابيو كتائب الظل؟ هل سيتفقان على الانصراف راشدين إلى الثكنات، ثم إلى المنازل، بعد تسليم الحكم إلى سلطةٍ مدنيةٍ تنصب المحاكم لمرتكبي الفظائع والإرهابيين؟ أم سيكون الاتفاق على تقاسم السلطة بما يضمن حماية الطرفين من أي مساءلة؟ فهل هذا ما يريده “الديمقراطيون”؟ أم أنهم يعلمون ما نعلم، ويريدون ما نعلم؟
ارحموا عقولنا، يرحمنا الله وعباده الصالحين.
المصدر: صحيفة التغيير