شهاب طه
رجائي، إن كنت من الذين لا يرغبون في حلحلة مشكلات وطنهم وإنهاء الحروب إلى الأبد، لا تقرأ هذه السلسلة.
في هذه السلسلة، أتناول مشروع دولة النهر والبحر كفكرة لحسم كل مشكلات السودان المزمنة، وخصصت هذه الحلقة للحديث عن د. حياة عبدالملك وعبدالرحمن عمسيب، اللذين نالا شرف الدفاع عن أهلهم وكل شعوب السودان، عبر سعيهما الجاد لبتر أسباب الحروب القائمة على مظالم زائفة. هما منارتان في ظلام فكري كثيف، وسط جهل بالحقائق وجبن مزمن سكن صدور الساسة في وطننا. ظهرا كهبةِ في لحظة ينجرف فيها السودان نحو الهاوية، وطرحا خطاباً واضحاً وجريئاً يُعرّي الواقع الذي لم يعد يحتمل التجميل أو المجاملة. واقعٌ قاسِ لا يسمح بوحدةِ قسرية تحت شعارات عاطفية أو دعاوى حسن النية. لذلك، لا يجوز الوقوف عند خلفياتهما أو دوافعهما، فالقضية التي يطرحانها تتجاوز الأشخاص، وتمس مصير وطنٍ بأكمله. ما قدّماه من وقائع يجب أن يكون محل نقاش، لا مزايدة، ويُواجه بعقل مستنير وإرادة وطنية صادقة.
ورغم تباين خلفيتهما ولكنهما برزا كظاهرتين نادرتين في واقع سياسي يُدار بالعاطفة والترضيات والصمت المريب. فكان ظهورهما صرخة في وجه الإنكار، وتحذيراً من أن صمت العقلاء هو ما يُدمّر الأوطان. دعوتهما للاتكاء على الذات صريحة، بأن ينهض كل إقليم بشؤونه، حتى لو اقتضى ذلك الانفصال، فالوحدة الجبرية لا تصنع أوطاناً بل تُعيد إنتاج الصراع. ودارفور، تحديدًا، لا تمثّل امتداداً لبقية السودان لا اجتماعياً ولا مؤسسياً، فهي كيان بنظام مختلف لا يُعالج من المركز ولا يُدار من الخرطوم، بل من داخله وبأيدي أبنائه.
دارفور، ببساطة، خارج الدولة المدنية القائمة على سيادة القانون وتكافؤ الفرص، إذ تتحكم فيها بنية قبلية راسخة وأعراف الحواكير، حيث الأرض ملك للقبائل يتصرف فيها الزعماء بلا رقابة مدنية. ولذا، فإن الدولة تعجز عن التصرف في الأرض وتنفيذ مشاريع تنموية عادلة ينعم بها الجميع، وتُترك الغالبية المستضعفة بلا أرض ولا حقوق، بين خيارين: السخرة تحت سلطة الملاك، أو النزوح إلى العاصمة مدن الشريط النيلي للعيش في الهامش الحقيقي بلا أفق. ثم يُحمّل البعض الدولة مسؤولية معاناة هؤلاء، وهذا ما سأتوسع فيه لاحقاً.
رغم وضوح أطروحاتهما، لم يسلما من تهمة العنصرية، وهي تهمة نعرف أنها جاهزة لكل من يقترب من الحقيقة وكشف الزيف. تُطلقها نفوس امتلأت بالحقد والجهل، لكنهما لا ينشغلان بها، لأن ما يطرحانه أعمق من تلك المهاترات. ومن يتهمهما فليطرح حلاً جذرياً حقيقياً لمشكلات دافور المزمنة بعيداً عن فزاعة المركز، خاصة الصراع الأزلي ما بين زرقة وعرب، وليثبت أنه ساهم في نزع سلاح واحد، أو محو أمية فرد واحد، أو صنع سلام دائم في نطاق مجتمعه
فقط الجهلاء من يهاجمانهما أما العقلاء فلا يملكون سوى الجلوس في حضرتهما، لأن أطروحاتهما ليست عن تمزيق وطن بل عن إنقاذه. حديث يعيد دارفور إلى أهلها لا إلى سماسرة الحروب وفرية الهامش. وهذه الحقائق التي يُقدّمانها بلا مقابل، لو أُخذت بجدية، لتوقف النزيف الذي لازم السودان منذ الاستقلال. فحل الأزمة لا يكون بالترضيات، بل بالاعتراف الشجاع بأن السودان لا يمكن أن يكون بيتاً للجميع ما لم تعترف مكوناته باختلافها، وتُقِر بأن التعدد والتباين الثقافي يتطلبان احترام أنماط الحياة المختلفة. وما حققته بعض الشعوب السودانية من تطور ذاتي لا يجب أن يُقابل بالحقد، بل يُحترم ويُحتذى به. فالعدالة لا تعني أن ينتظر المتفوق المتقاعس، بل أن تتساوى الحقوق والفرص، دون أن يُعاقب الطموح، ويُكافأ العاجز باسم المظلومية.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة