دواهي الإفلات من العقاب: مجزرة فض الاعتصام نموذجاً
خالد فضل
جريمة المجزرة التي حدثت تفاصيلها المرعبة أمام بوابات القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في قلب العاصمة الخرطوم، لم تك بحاجة إلى إثباتات كثيرة، ولا أتصور أنها من التعقيد القانوني بحيث تأخذ أكثر من أربع سنوات دون الكشف عن مرتكبيها. فهي قد وقعت في مقر أعتى قوة مسلحة افتراضا وضحاياها آلاف المدنيين من فئة الشباب في الغالب ومن النوعين ذكور وإناث مورست ضدهم أقسى أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسا ؛ وكان الحصاد قتل وجرح واغتصاب وفقد وذهول.
تزامنت الجريمة مع ممارسات مماثلة في مقار عدد من الحاميات العسكرية بمدن سودانية مختلفة والضحايا دوما هم ذات الفئة التي كانت تعتصم أمام مقار تلك القوات العسكرية تطالب بتنحي المجلس العسكري الذي سيطر على الحكم عقب الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير في يوم 11أبريل 2019م وتسليم السلطة الإنتقالية للمدنيين فورا باعتبار أنّ الثورة الشعبية المدنية السلمية هي التي أجبرت البشير على التنحي. صحيح كان هناك دور مهم للقوات العسكرية في عملية الإطاحة ولكن هذا الدور لا يمنح تلك القوات أي حق في الحكم، فهو، أي الحكم شأن مدني بحت، فيما للجيوش مهام أخرى عديدة وكبيرة ومهمة لكن ليس من ضمنها أبدا تولي حكم البلاد.
ضمن الوثيقة الدستورية الموقعة لاحقا بين القيادة السياسية للثورة وهي القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير؛ وشملت معظم القوى الثورية في البلادوبين المجلس العسكري (المكون العسكري) تم النص على تكوين لجنة تحقيق مستقلة أسندت رئاستها للأستاذ المحامي نبيل أديب عبدالله وشرعت في عملها منذ تكوينها في نهاية العام 2019 ولم تنجز مهمتها حتى الآن لم تقدم تقريرها بعد، وفي عدة مرات شكا رئيسها من تأخر الإجراءات لأسباب فنية أو لوجستية.
كانت الجريمة واضحة وبشعة استجلبت إدانة كل أصحاب الضمائر اليقظة من البشر في أصقاع المعمورة المختلفة، بيد أنّ السادة الكرام في المجلس العسكري كانوا أبعد ما يكون عن أجواء الفجيعة خرج متحدثهم إلى الإعلام ليخبر الناس عن قرار فض منطقة كولومبيا لأن بعض جنده (يسكرون) فيها، ولكن انحرفت القوات المشتركة والمكونة من كل الفصائل العسكرية والأمنية المعروفة وبعد مشاورة النائب العام (تبرأ من مشاركته في إتخاذ قرار فض الإعتصام واستقال من موقعه أو أُقيل)، المهم كان سبب المجزرة هو انحراف القوات المشتركة عن كولومبيا ودخولها ساحة الإعتصام التي كانت محددة المواقع ومحاطة بحراسات شبابية ثورية بهيجة، كانت هذه إفادة أحد أعمدة المجلس العسكري، هو الفريق الكباشي، فيما قال آخر؛ قائد الدعم السريع في أول تعليق له على المذبحة (إنها فخ تم نصبه لقواته) وكانت تلك إشارة إلى ولوغ عساكره في ارتكاب المجزرة. أما رئيس المجلس نفسه، قائد الجيش، فقد نفى مشاركة أي عضو في مجلسه في قرار ارتكاب المجزرة، روايات متناقضة في بعض أجزائها ومتناغمة في بعضها. فمن التناغم أن هناك قوات عسكرية مشتركة لتنظيف كولومبيا ومن ضمنها الدعم السريع بطبيعة الشمول لكل القوات وباعتراف حميدتي بالفخ، فيما رئيسهم ينكر كل ذلك فهم لا يعرفون.
الآن بعد أنّ انفض سامر صداقة المصالح وشراكة الدم، بعد أنّ تباعدت الخطوات بين الرحم الولود والابن الشقي، كما كان قائد الجيش ينعت الدعم السريع بأنه مولود من رحم الجيش، وبعد أن نشبت الحرب الضروس التي قضت على بقة الأمل في سودان جديد ظل يحلم به شهداء الثورة السودانية وشهيداتها ويغنون له يرسمون ويلونون الفضاء بإبداعاتهم ومواهبهم، الآن ومنذ صبيحة 15 أبريل صار البرهان/حميدتي أعداء يتقاتلون بمختلف أنواع الأسلحة المادية منها والمعنوية، صار رأس البرهان مطلوبا للدعامة ورأس حميدتي هدفا للدياشة كما تقول عاميتنا في الجزيرة للجيش (ديش).
عاد البرهان بعد ستة أشهر من الحرب ليعلن أنّ قوات الدعم السريع عدو الديمقراطية والحرية وأنها هي التي فضت اعتصام القيادة في 3 يونيو 2019م. يا له من اكتشاف فطير وقول بئيس من رئيس ضرورة، اليوم فقط وبعد الصراع والقتال والحرب والدمار يعدّل البرهان من كل ما ساقه سابقا، لابد أن صحوة ضمير قد انتابته بعد طول سبات، أو فجة موت قد واتته فيريد أن يريح باله المهموم بضحايا عهده الكثر، أولئك الذين قال ذات مرّة إنّ طرفا ثالثا يقتلهم في الشوارع، وأنّ لجان التحقيق تفشل لأن الجميع لا يتعاون معها، وأنّ وأنّ وأنّ إلخ.
الإفلات من العقاب الذي هو ديدن الممارسة الملتوية للحكومات العسكرية المتعاقبة والتي شغلت بضع وخمسين سنة من سنوات ما بعد (رفع العلم) هو العنصر الأهم والسبب الأبرز في ما نحن فيه من دواهي ساحق وماحق وبلا متلاحق، أي بناء جديد لسودان ممكن لا يقوم إلا على أساس المساءلة والمحاسبة، العدالة وسيادة حكم القانون، أي بناء مجاف للديمقراطية عدو للحرية مطية للعسكر والمليشيات هو بناء على جرف هار ,لن تقوم له قائمة البندقية لن تحل قضية، العسكرية مهنة الفشل الذريع إما أن تنضبط أوتغرغر دواء الإصلاح المر غصبا عنها (كالطفل العنيد) وإلاّ فالتغرب غير مأسوف عليها، شبابنا الغر الشهداء/ات ليس فيهم عسكري واحد. الحياة الحرة الكريمة والمستقبل للعقل لا للعضل،أوقفوا الحرب اليوم، ولابد من العدالة للشهداء وسيأتي البرهان وحميدتي وغيرهما إلى ساحة المحكمة ليقول قائلهم ما يقول، الإتهامات للدعم السريع بفض الإعتصام لن تعفي سيادة البرهان من شبهة ولوغه في الجريمة وسكوته كل هذه السنوات دليل تواطؤ إن لم تك المشاركة الأوفى في المجزرة.
المصدر: صحيفة التغيير