ملخص تنفيذي
يقدم هذا التقرير تحليلاً استقصائياً معمقاً لعملية استحواذ شركة “ديب ميتالز” المصرية على منجم ذهب “أركيديا” في السودان. يتجاوز التحليل الإعلان التجاري للصفقة ليكشف عن شبكة معقدة من المخاطر، والتي يتم تسهيلها عبر شبكة من الوسطاء المثيرين للجدل وشخصيات نافذة يُزعم ارتباطها بأجهزة استخبارات إقليمية. إن الصفقة، التي تأتي في خضم حرب أهلية مدمرة في السودان، لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقها المشتعل. يكشف التحقيق أن هذا الاستثمار، الذي يبدو للوهلة الأولى خطوة تجارية جريئة، هو في حقيقة الأمر دخول محسوب إلى قلب اقتصاد الحرب السوداني، كطرف منحاز لأحد قطبي الصراع. ويخلص التقرير إلى أن الصفقة محاطة بمخاطر استثنائية تنبع من ثلاثة مصادر رئيسية: أولاً، التاريخ السام للأصل المستحوَذ عليه. ثانياً، البيئة التنظيمية الفاسدة التي يتم تجاوزها عبر صفقات تُعقد بواسطة شبكة ظل نافذة. وثالثاً، والأهم، أن الاستثمار يمثل انغماساً مباشراً في البنية التحتية الاقتصادية التي تمول المجهود الحربي للجيش السوداني، وسط اتهامات بأن هذه الشبكة تعمل كواجهة لعمليات استخباراتية تهدف إلى السيطرة على موارد السودان وتهريبها.
القسم 1: صفقة في الصحراء: “ديب ميتالز” ترفع علمها
يستعرض هذا القسم الصفقة المحورية، ويضعها على الفور في سياق البيئة عالية المخاطر التي تمت فيها، مما يؤسس للإطار التحليلي لبقية التقرير.
تفاصيل الصفقة
تتمثل الحقيقة المركزية للتحليل في استحواذ شركة “ديب ميتالز”، التابعة لمجموعة صناعية مصرية يملكها رجل الأعمال محمد الجرحي، على حصة أغلبية تبلغ 85% في منجم ذهب “أركيديا” بالسودان. هذه الخطوة تمثل استثماراً أجنباً مباشراً وكبيراً في قطاع استراتيجي وحساس للغاية، وفي وقت يتسم بأقصى درجات عدم اليقين.
سياق الصراع الدامي
يجب تأطير هذه الصفقة على خلفية الحرب الأهلية المدمرة التي اندلعت في السودان، والتي حولت أجزاء واسعة من البلاد إلى ساحة قتال. إن الثروة المعدنية الهائلة للسودان، والتي تقدر احتياطيات الذهب فيها بنحو 523,000 طن، لا تعد مجرد ضحية للحرب، بل هي المحرك الرئيسي لها. فالسيطرة على مناجم الذهب تترجم مباشرة إلى قدرة على شراء الأسلحة، وتجنيد المقاتلين، وتمويل العمليات العسكرية.
تقييم أولي للمنطق الاستثماري
يطرح هذا الاستثمار السؤال الجوهري: ما الذي يدفع مجموعة صناعية كبرى إلى ضخ استثمارات ضخمة في دولة فاشلة تشهد حرباً ساخنة؟ عند النظر إلى الموقع الجغرافي للمنجم ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة السودانية، الحليف التقليدي لمصر، يبدأ المنطق الاستراتيجي في التبلور. لم تعد الصفقة مجرد مقامرة تجارية، بل تبدو كخطوة جيوسياسية محسوبة تهدف إلى تأمين الموارد لصالح حليف استراتيجي وتقويض الخصم، وسط مزاعم بأنها تتم بغطاء استخباراتي مباشر.
القسم 2: المستحوذ: عملاق حديد مصري بأدوار متعددة
يحلل هذا القسم هوية الجهة المستحوذة لفهم دوافعها الاستراتيجية وقدراتها وصلاتها المحتملة بالدولة، مما يوفر سياقاً حيوياً لتقييم أبعاد الصفقة.
الملف التعريفي لمجموعة الجرحي
تُعرف الجهة المستحوذة في المقام الأول كلاعب رئيسي في صناعة الصلب المصرية تحت اسم “الجرحي للصلب”. ويبرز في قيادتها شخصيات مثل محمد الجرحي، وهو شخصية عامة بارزة في مصر، حيث يشغل عضوية مجلس النواب المصري، بالإضافة إلى مقعده في مجلس إدارة النادي الأهلي. هذه الأدوار المتعددة تضعه في دائرة الضوء وتجعله شخصية مكشوفة سياسياً (Politically Exposed Person)، مما يضاعف من المخاطر المتعلقة بالسمعة لأي استثمار يدخل فيه.
تحليل التنويع الاستراتيجي
يمثل الانتقال من صناعة الصلب المستقرة نسبياً في مصر إلى تعدين الذهب في السودان الذي تمزقه الحرب، نقلة نوعية وتنويعاً استراتيجياً محفوفاً بالمخاطر. يمكن تفسير هذا التحول بأنه “محور الأصول الصلبة” في منطقة مضطربة، مدفوعاً بالقدرة على الاستحواذ على أصل استراتيجي بـ “خصم الصراع”.
استكشاف الروابط المحتملة بالدولة
نظراً للحساسية الجيوسياسية الفائقة لهذا الاستثمار، يصبح تحليل احتمالية وجود تنسيق مع الدولة المصرية أو دعم منها أمراً بالغ الأهمية. سياق التحالف التاريخي لمصر مع القوات المسلحة السودانية يجعل هذا الاحتمال وارداً بقوة. ويمكن قراءة الصفقة كشكل من أشكال الدبلوماسية الاقتصادية، حيث تستخدم الدولة شركاتها الوطنية كأدوات لتعزيز نفوذها الاستراتيجي.
القسم 3: الجائزة: إرث الصراع في منجم أركيديا
يجري هذا القسم فحصاً دقيقاً للأصل نفسه، ليكشف عن تاريخه الملوث وارتباطاته المباشرة بأطراف النزاع، مما يوضح المخاطر الكامنة في الصفقة.
التاريخ التشغيلي والسيطرة السابقة
تشير المعلومات بوضوح إلى أن منجم أركيديا كان يخضع لإدارة شركة “الجنيد”، وهي كيان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقوات الدعم السريع.
تحول السيطرة بعد الحرب: من إرث قوات الدعم السريع إلى حضن الجيش
اندلاع الحرب في أبريل 2023 أحدث تغييراً جوهرياً. تقع مناطق الامتياز التي تشملها الصفقة في ولايات الشمالية والبحر الأحمر ونهر النيل، وهي معاقل تقع تحت السيطرة الراسخة للقوات المسلحة السودانية. هذا التحول لا يمحو الإرث السام للمنجم، ولكنه يغير طبيعة المخاطر الحالية بشكل جذري. لم يعد الاستحواذ يعني التعامل مع نفوذ شركة الجنيد، بل أصبح يعني الدخول في شراكة اقتصادية مباشرة مع القوات المسلحة السودانية في زمن الحرب، لتصبح “ديب ميتالز” أداة رئيسية في المحور الاقتصاديالعسكري الجديد بين مصر والجيش السوداني.
القسم 4: حراس البوابة: شبكة الظل التي تدير الصفقة
يدرس هذا القسم البيئة التنظيمية المحيطة بالصفقة، ويوضح أن المؤسسات الحكومية الرسمية قد تم تجاوزها من قبل شبكة من الوسطاء والشخصيات النافذة التي تعمل خلف الكواليس، وسط اتهامات خطيرة بارتباطها بجهات استخباراتية.
الواجهة الرسمية: الشركة السودانية للموارد المعدنية (SMRC)
تعتبر الشركة السودانية للموارد المعدنية (SMRC) هي الهيئة الحكومية الرسمية المسؤولة عن تنظيم قطاع التعدين. ومع ذلك، فإن سجلها الحافل بالفساد يجعلها مجرد واجهة تنظيمية تفتقر إلى المصداقية.
شبكة النفوذ: النمير وأردول والغطاء الاستخباراتي المزعوم
تشير المعلومات إلى أن الصفقة لم تتم عبر القنوات التنظيمية الشفافة، بل تم تسهيلها عبر شبكة من الشخصيات ذات النفوذ، تحوم حولها اتهامات بالارتباط بالمخابرات المصرية:
- عمر النمير، الوسيط الغامض: يظهر اسم رجل الأعمال عمر النمير كوسيط رئيسي في الصفقة. النمير، الذي يواجه تعقيدات مالية وقانونية، يُعرف بقربه من دوائر عسكرية نافذة في حكومة بورتسودان ويعمل كواجهة لشخصية عسكرية رفيعة المستوى. وتذهب الاتهامات إلى أبعد من ذلك، حيث يُزعم أن إحدى شركاته في اليونان هي مكتب للمخابرات المصرية، وأنه يلعب دوراً محورياً في ترتيبات تهريب الذهب السوداني عبر سويسرا.
- مبارك أردول، العودة من الشباك: على الرغم من إقالته رسمياً، يظهر اسم مبارك أردول مجدداً كشريك في هذه الصفقة من خلال النمير. هذا النمط يؤكد أن أردول لا يزال لاعباً مؤثراً عبر شبكة علاقاته مع النخبة العسكرية والوسطاء الجدد. وفي تسجيلات لاحقة، دافع أردول بنفسه عن هذه الممارسات، معتبراً أن استخدام أموال المسؤولية المجتمعية لدعم الفعاليات السياسية لحلفائه، مثل استقبال مني مناوي، هو إجراء معتاد قامت به الشركة في مناسبات سابقة مثل مواجهة جائحة كورونا والسيول، مما يؤكد أن استخدام موارد الدولة لخدمة الأجندات السياسية كان سياسة ممنهجة وليست حادثة عرضية.
- أساليب الترهيب: تكشف شهادات صحفية، مثل شهادة الصحفي مجاهد بشرى، عن الأساليب التي تستخدمها هذه الشبكة لحماية مصالحها. يروي بشرى كيف حاول النمير استمالته أولاً، وعندما فشل، لجأ إلى التهديد والتشهير، مما يسلط الضوء على الطبيعة الخطرة لهذه الشبكة واستعدادها لإسكات الأصوات الناقدة.
إن هذه التركيبة، معززة بالاتهامات المباشرة بالارتباط بجهات استخباراتية، تكشف أن الصفقة هي في جوهرها ترتيب بين نخبة سياسيةعسكرية سودانية ومستثمر أجنبي، يتم عبر وسطاء يعملون كجزء من عملية جيوسياسية أوسع. وهذا يبطل أي ادعاء بالشرعية الإجرائية ويعرض الاستثمار لمخاطر هائلة.
القسم 5: اقتصاد الحرب: كيف يغذي ذهب السودان صراعاً مفرغاً
يوسع هذا القسم نطاق التحليل إلى البعد الدولي، حيث يفصّل البنية التحتية للاقتصاد غير المشروع الذي أصبحت “ديب ميتالز” جزءاً منه.
خط أنابيب “الذهب مقابل السلاح”: محور الإماراتالدعم السريع
تظهر التقارير الاستقصائية أن قوات الدعم السريع تمول مجهودها الحربي عبر تهريب الذهب من المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى الإمارات العربية المتحدة.
المحور المضاد: خط أنابيب مصرالجيش السوداني ووجهة سويسرا
إن استثمار “ديب ميتالز” لا يمكن فهمه إلا كرد فعل مباشر على محور الإماراتالدعم السريع. فمنذ اندلاع الحرب، عملت القوات المسلحة السودانية على إنشاء محور اقتصادي مضاد، يهدف إلى تحويل إنتاج الذهب من المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى مصر. وتضيف الاتهامات الجديدة بعداً آخر لهذه الشبكة، حيث يُزعم أن الذهب يتم تهريبه عبر سويسرا، مما يشير إلى وجود عملية غسيل أموال وتكرير متطورة تهدف إلى إدخال “ذهب الصراع” إلى الأسواق العالمية كذهب شرعي. وبهذا، لا تدخل “ديب ميتالز” إلى اقتصاد حرب فوضوي، بل تنضم إلى جانب محدد ومنظم في هذا الاقتصاد، وتعمل على إضفاء الطابع الرسمي على خط أنابيب الذهب بين الجيش السوداني ومصر، والذي قد تكون وجهته النهائية هي مصافي الذهب في سويسرا.
القسم 6: التحليل والتداعيات: الإبحار في حقل ألغام من المخاطر
يجمع هذا القسم التحليلي الخيوط من الأقسام السابقة لتقديم تقييم متعدد الأوجه للمخاطر.
الجدول 1: الجهات الفاعلة الرئيسية والانتماءات والمخاطر في قطاع الذهب السوداني
إن المزاعم المتعلقة بتورط المخابرات المصرية ترفع مستوى المخاطر من مجرد صفقة تجارية عالية المخاطر إلى عملية استخباراتية اقتصادية محتملة. هذا لا يعرض الاستثمار لخطر المصادرة من قبل حكومة مستقبلية فحسب، بل يجعله أيضاً هدفاً مشروعاً في الصراع الجيوسياسي الأوسع، وقد يعرض الشركة والعاملين فيها لعقوبات دولية.
6.2 المخاطر التشغيلية والعسكرية والمتعلقة بالسمعة
تتضخم المخاطر المتعلقة بالسمعة بشكل هائل. لم يعد الأمر يقتصر على التعامل مع شخصيات فاسدة، بل يمتد إلى الارتباط المزعوم بشبكة تعمل كواجهة للمخابرات الأجنبية وتستخدم الترهيب ضد الصحفيين. هذا النوع من الارتباطات يمكن أن يكون مدمراً لسمعة أي شخصية عامة مثل محمد الجرحي.
القسم 7: الخلاصة والتوقعات المستقبلية
يلخص هذا القسم النهائي نتائج التحقيق ويقدم تقييماً استشرافياً للمسارات المحتملة لهذا الاستثمار عالي المخاطر.
ملخص النتائج
يؤكد التحليل أن استحواذ “ديب ميتالز” على منجم أركيديا هو انحياز واضح ومدروس في حرب السودان الأهلية، تم ترتيبه عبر شبكة من الوسطاء النافذين الذين يواجهون اتهامات خطيرة بالفساد والارتباط بالمخابرات المصرية. تضع الشركة نفسها كأداة رئيسية في المحور الاقتصادي المصريالسوداني الذي يهدف إلى تمويل المجهود الحربي للجيش ومواجهة النفوذ الإقليمي الداعم لقوات الدعم السريع.
التوقعات المستقبلية
في ضوء التحليل، يواجه هذا المشروع احتمالاً كبيراً إما بالفشل أو بالتواطؤ. وتتمثل السيناريوهات الأكثر ترجيحاً في ما يلي:
- الجيب العسكري المحصن: ينجح الاستثمار بفضل الحماية المباشرة من القوات المسلحة السودانية والغطاء السياسي المصري، ويتحول المنجم إلى موقع اقتصاديعسكري محصن يساهم بفعالية في تمويل حرب الجيش.
- هدف استراتيجي: تفشل الشركة في تأمين المنشأة، وتتعرض لهجمات من قبل قوات الدعم السريع التي تسعى لتدمير مصدر تمويل رئيسي لخصمها.
- المصادرة أو التخلي: أي تغيير في موازين القوى السياسية في الخرطوم يمكن أن يؤدي إلى إلغاء الصفقة، خاصة وأنها تستند إلى نفوذ أشخاص وشبكات ظل وليس إلى شرعية مؤسسية.
البيان الختامي
يخلص التقرير إلى أن هذا الاستثمار لم يعد مجرد مخاطرة تجارية، بل هو قرار استراتيجي بالدخول في حرب بالوكالة. لقد تجاوزت “ديب ميتالز” الخط الفاصل بين التجارة والسياسة، ووضعت أصولها وسمعتها في خدمة محور جيوسياسي محدد، معتمدة على شبكة من الوسطاء الذين قد يكونون هم أنفسهم مصدراً لعدم الاستقرار في المستقبل.
المصدر: صحيفة الراكوبة