صفاء الزين


صفاء الزين

من يتأمل المزاج السوداني في خضم الحرب الراهنة يلحظ مفارقة مؤلمة: الناس يئنون تحت وطأة الجوع والنزوح وانهيار الحياة اليومية، ومع ذلك يتهلل بعضهم كلما أحرز طرف من أطراف الصراع تقدمًا عسكريًا. كيف لإنسان يكتوي بنار الحرب أن يفرح باستمرارها؟ هذا التناقض لا يُفهم إلا إذا أدركنا أن الحرب لم تعد حدثًا عابرًا، بل غدت بيئة كاملة تعيد تشكيل الوعي وتعيد تعريف معنى الفرح ذاته.
صوت من الواقع: في مدينة الخرطوم، تحكي أم أحمد، وهي نازحة فقدت منزلها، عن ابنها الذي يتابع أخبار المعارك بحماس وكأنها مباراة رياضية، بينما هي تتساءل: “كيف نفرح بالنصر ونحن ننام على الرصيف؟” هذا الانقسام بين أمل الشباب ويأس الواقع يعكس كيف تُشكّل الحرب العقول.
الانتصارات العسكرية زائلة ومتقلبة. اليوم يسيطر طرف على مدينة، وغدًا يخسرها. لكن الإعلام الدعائي يحوّل هذه اللحظات العابرة إلى مشهد يشبه مباراة كرة قدم: من فاز؟ من خسر؟ فينخرط الناس في لعبة النتائج اللحظية، بينما يغيب السؤال الأهم: متى تنتهي الحرب؟
التاريخ يقدم دروسًا مشابهة. في الحرب الأهلية الإسبانية، فرحت شعوب منهكة بانتصارات ميدانية لم تغيّر مصيرها، بل أجلت الانهيار. الفلاسفة، مثل هانا آرنت، حذروا من تحويل الانتصار إلى “تسجيل نقاط” يفرّغ المعنى الإنساني ويجعل الناس أسرى منطق العنف.
هكذا، تعسكر الحرب المدن والعقول معًا. يذوب الفرح المدني المرتبط بالسلام والتعليم والتنمية، ويُستبدل بفرح عسكري قصير الأمد: سيطرة على موقع، رفع علم، تراجع خصم. مع الوقت، يتجذر هذا التحول في المخيلة الشعبية، ليصبح أخطر من المدفع نفسه، إذ يواصل التدمير حتى بعد توقف إطلاق النار.
الفرح الحقيقي للإنسان لا يكون بالرصاص، بل بوقفه. لا يكون بالسيطرة على المدن، بل بعودة الحياة إليها. هو فرح السلام حين تمتلئ الأسواق بالخيرات لا بالذخائر، وحين تُفتح المدارس بدل المتاريس، وحين يُحتفل بإنجازات تبني الحياة لا بمعارك تحصدها. لاستعادة هذا الفرح، يحتاج السودانيون إلى مبادرات مجتمعية تُعيد بناء الثقة، مثل حوارات السلام المحلية ودعم المبادرات التعليمية في مخيمات النزوح، ليبدأ الناس بتخيل مستقبل يتجاوز الحرب.
التاريخ يعلمنا أن الانتصار العسكري، مهما بدا عظيمًا، لا يساوي شيئًا إن لم يُترجم إلى سلام. والفلسفة تذكّرنا أن الفرح الحقيقي هو ما يمنح الوجود الإنساني معنى أبقى. أما كل فرح بغير ذلك، فهو فرح زائف لن يخلّف سوى إطالة أمد الخراب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.