دراويش الفكر وبُناة الأمة وما سطّروه لتاريخنا23
في يوم الأحد السادس من يناير لعام 2008م، ودّع العالم البروفيسور محمد سعيد القدال، تاركًا وراءه إرثًا ثريًا من العلم والمعرفة. عُرف بتواضعه الجم ونضاله الدؤوب من أجل تجديد حياة الشعب السوداني والدفاع عن حقوق المستضعفين. أثرى القدال المكتبة السودانية بمؤلفات قيّمة ساهمت في تشكيل نظرة موضوعية جديدة للتاريخ والتراث السوداني، وكان مربيًا لأجيال من طلاب العلم والدراسات العليا
كمفكر ومؤرخ سوداني بارز، وُلد القدال في عام 1935 بمدينة سنكات شرق السودان. تلقى تعليمه الأولي في الخرطوم وتخرج من كلية الآداب بجامعة الخرطوم عام 1958. حصل على درجة الماجستير من جامعة كاليفورنيا ودرجة الدكتوراه في تاريخ السودان الحديث من جامعة الخرطوم. خلال مسيرته الأكاديمية، شغل مناصب عدة، منها مساعد مفتش التاريخ بوزارة التربية، ورئيس قسم التاريخ بمعهد المعلمين العالي، وأستاذًا مشاركًا في جامعة الخرطوم وجامعة عدن
من بين مؤلفاته العديدة “التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية” “الحرب الحبشية السودانية” و“المهدية والحبشة” “الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو” “الإمام المهدي: لوحة لثائر سوداني” “السياسة الاقتصادية للدولة المهدية” “الإسلام والسياسة في السودان”
“الانتماء والاغتراب: دراسات في تاريخ السودان” “تاريخ السودان الحديث: 18201955”
كانت إسهاماته الفكرية ذات تأثير كبير في الفكر السوداني والعربي، وتُعد مؤلفاته مرجعًا هامًا للباحثين والمهتمين بالتاريخ السوداني والدراسات الإسلامية. وقد تميز بتركيزه على التاريخ السوداني، واستخدامه منهجية أكاديمية صارمة في دراساته، ومساهمته في تطوير المناهج التربوية، وتأثيره الثقافي والاجتماعي الواسع.
رحل القدال وهو متمسك بمبادئه، مدافعًا عن فكره ومنهجه، ومناضلًا من أجل إصلاح التعليم العالي وإنقاذ جامعة الخرطوم. سيُذكر دائمًا كأحد الأعمدة الرئيسية في الفكر والتاريخ السوداني، وستبقى مؤلفاته شاهدة على إسهاماته الجليلة في مجالات التاريخ والسياسة والتعليم.
لدكتور محمد سعيد القدال كان مفكرًا ومؤرخًا له تأثيره الخاص في الفكر الإسلامي. وفقًا للمعلومات المتاحة، لا يُظهر أنه كان ضد التيار الإسلامي بشكل عام. بل على العكس، يُشير إلى أنه كان له إسهامات في الدراسات الإسلامية وقدم أبحاثًا في مجالات مثل “الإسلام والسياسة في السودان” و”الاتفاق في القرآن الكريم” وغيرها. ومع ذلك، يُعتبر أن له توجهات فكرية متنوعة وقد يكون له آراء معينة تختلف عن بعض التيارات الإسلامية الأخرى لذا، يُمكن القول إنه كان له نهجه الخاص في التعامل مع القضايا الإسلامية دون أن يكون ضد التيار الإسلامي بشكل كامل. وأذا حاولت عقد مقارنة بينه وبين أين جيله الدكتور ايرهيم ابوسليم , تجد أن الدكتور إبراهيم أبوسليم والدكتور محمد سعيد القدال كلاهما من الشخصيات البارزة في مجال التاريخ السوداني، ولكل منهما إسهامات قيمة في هذا المجال. الدكتور أبوسليم معروف بأعماله الأكاديمية الدقيقة وتحليلاته التاريخية، وقد قدم تصويبات واستدراكات لأعمال تاريخية سابقة، مما يعكس عمق بحثه واهتمامه بالدقة التاريخية.
من ناحية أخرى، الدكتور القدال معروف بتركيزه على تاريخ الطوائف الدينية السودانية والأحزاب العقائدية، بالإضافة إلى أبحاثه في مجال المناهج التربوية وكلاهما قدم مساهمات مهمة في فهم التاريخ السوداني ولكن من زوايا مختلفة، مما يعزز الفهم الشامل للتاريخ السوداني وتطوره.
ويمكن القول إن كلا المفكرين قد أثرى الفكر التاريخي السوداني بطرق متميزة، وتقديرهما يأتي من خلال الإسهامات الفريدة التي قدم كل منهما في مجاله
وقد أسهم بشكل كبير في دراسة تاريخ الأحزاب السياسية في السودان، بما في ذلك الحزب الشيوعي السوداني. لقد تناول في كتاباته تطور الحزب الشيوعي وأثره في السياسة السودانية، ومن بين مؤلفاته التي تتناول هذا الموضوع كتاب “معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني” وكتاب “الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب 25 مايو”، الذي يبحث فيه تأثير الحزب على الأحداث السياسية في السودان
، يُعد البروفيسور محمد سعيد القدال ركنًا أساسيًا في بناء النهضة الفكرية السودانية. فقد كان بمنزلة الاساس الذي وضع اللبنات الأولى لصرح الفكر والمعرفة، مُسلحًا بإنجازاته العملية ومواقفه السياسية الثابتة. لقد أسس القدال لمرحلة جديدة من الوعي بأهمية التاريخ والتراث في تشكيل المستقبل، وعمل بلا كلل لتعزيز دور التعليم كقوة محركة للتقدم الاجتماعي والثقافي
من خلال مؤلفاته الغزيرة وأبحاثه الرصينة، قدم نموذجًا للباحث الجاد والمفكر النقدي، وأثبت أن الفكر السوداني قادر على المساهمة بفاعلية في الحوار العالمي حول القضايا الإنسانية والاجتماعية. وبمواقفه السياسية، كان القدال صوتًا للحقيقة والعدالة، يدافع عن الحريات ويناضل من أجل مجتمع أكثر إنصافًا وتقدمًا.
إن إرث البروفيسور محمد سعيد القدال يظل حيًا في الأجيال التي تخرجت تحت إشرافه وفي كل كلمة كتبها. لقد كان بحق أحد بناة النهضة الفكرية السودانية، وستظل ذكراه مصدر إلهام لكل من يسعى للمعرفة والتجديد , وهو بحق أحد بناة فكر الامة السودانية
ولي عودة مع مفكرَا أخر
المصدر: صحيفة الراكوبة