دارفور.. ستغيّر المشهد

احمد عثمان جبريل

في التاريخ محطات لا تُقاس بعدد القتلى ولا بحجم المدن، بل بما تسقطه من المعاني في قلوب الناس.. وسقوط الفاشر لم يكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل جرحًا مفتوحًا في ضمير الوطن كلّه.

قال الفيلسوف العربي عبد الرحمن الكواكبي:
“الاستبداد يقلب القيم فيجعل الأمة تكره الحرية وتحب العبودية، حتى إذا خُيّرت بين الطغيان والفوضى اختارت الطغيان.”

(1)
صمدت الفرقة السادسة في الفاشر أكثر من أربعة أشهر، تقاتل وهي محاصرة من كل الجهات بلا طعام ولا دواء ولا إمداد.. رجالها كانوا يقاتلون من بقايا قوتهم، والمدينة من حولهم تختنق تحت الحصار، بينما السماء تُمطر نارًا والأرض تُنزف دمًا.. قائدها ظلّ ثابتًا، مؤمنًا بأن الفاشر ليست مجرد موقع بل آخر ما تبقى من شرف الجندية السودانية.. كان يمكن له أن يصمد أكثر، لو جاءته المعينات، أو لو كفّ عنه القتل بقرار سياسي حكيم.. لكنه واجه المصير ذاته الذي واجهه سابقا قائد مدني من قبل، حين أمرته القيادة أن “ينتحر في موقعه”، ليُترك بعدها الجنجويد يعيثون في الجزيرة وسنار حتى تخوم القضارف.. هكذا يُكتب مصير المدن في هذا الوطن: “لا بالرصاص، بل بقرارات مرتبكة من فوق”.

(2)
بسقوط الفاشر، لم يسقط جدار عسكري فحسب، بل سقطت آخر نقطة توازن في جسد الدولة.. هذا السقوط كشف هشاشة القيادة وعمق التواطؤ، وفتح الباب أمام سيناريو كان الجميع يخشونه: “أن ينقسم السودان فعليًا إلى شرق وغرب” وأن يُعاد رسمه ليس بالاتفاقات، بل بالدماء.. فبعد الفاشر، لن يكون الطريق إلى الأبيض إلا امتدادًا لخرابٍ متسلسل، وسينكشف الغرب أمام واقعٍ جديدٍ يهدد معنى الدولة نفسها.. نعم الدولة السودانية كلها.

(3)
ولأن القيادة لا تتعلم من التاريخ، خرج البرهان ببيان متهالك يبرّر فيه الانسحاب من المدينة بأنه “إعادة تموضع وتأمين للقوات”.. أيّ تأمين هذا الذي يترك المدنيين نهبًا للموت والجوع والاغتصاب؟ يا ليته صمت.. وأيّ قائدٍ هذا الذي يتحدث عن حماية جنوده بينما شعبه يُباد أمام عينيه؟ هذه ليست كلمات قائد، بل اعتراف بالعجز.. فحين يتخلّى القائد عن واجبه الأخلاقي، تسقط معه هيبة الدولة، ويصبح الوطن بلا درع ولا بوصلة.. لا أدري ربما كان هناك بيان غير الذي قاله البرهان وتراجع عنه في آخر لحظة.

(4)
البرهان اليوم لا يقود جيشًا، بل يُقاد من وراء ستارٍ كثيف تمسك بخيوطه الحركة الإسلامية التي أضاعت البوصلة منذ زمن.. نعم هذه الحركة التي تحوّلت من مشروعٍ حضاري كما ادعت إلى شبكة مصالحٍ ودماء، تُمسك برقبة الجيش وتوجّهه كما تشاء، يمينًا ويسارًا، وفق حساباتٍ لا علاقة لها بالوطن ولا بإنسانه.. وهذا الذي يعرفه كل الشعب السوداني، لقد جعلوا من الحرب وسيلة لاستعادة نفوذٍ سياسي مفقود، حتى لو كان الثمن دماء الأبرياء في دارفور والجزيرة وكل بقاع السودان.

(5)
ولأنهم لا يرون في السلام إلا تهديدًا لمصالحهم، رفض البرهان الهدنة التي طرحتها واشنطن لثلاثة أشهر.. رفضها وهو يعلم أن القبول بها كان سينقذ مئات الأرواح، ويمنح مدنه المحاصرة متنفسًا إنسانيًا.. لكنه لم يملك قرار نفسه، فالتعليمات تأتيه من “الظل” لا من الضمير. وهكذا اختار العناد على الحكمة، وفضّل أن يُقاتل حتى آخر مدني، لا حتى آخر جندي.

(6)
وفي خضم هذا الانهيار، جاء صوت المبعوث الأميركي مسعد بولس محذرًا: “سنعطي طرفي النزاع فرصة أخيرة للتجاوب مع التهدئة، وإلا سنضطر لاتخاذ إجراءات”. لكنها عبارة سمعها السودانيون من قبل في أزمنة مشابهة، ولم يروا بعدها سوى صمتٍ دولي أطال أمد المأساة. فالعقوبات والبيانات لا تُسكت المدافع، ولا تحمي النساء من الاغتصاب، ولا تطعم الجياع في معسكرات النزوح.. العالم يهدد دائمًا بعد فوات الأوان، ثم يعود إلى متابعة نشراته المسائية وكأن شيئًا لم يكن.

(7)
الأمم المتحدة اعربت عن قلقها، والاتحاد الإفريقي منشغل بالبيانات، والعواصم الكبرى ستمارس كذلك إنسانيتها بعباراتٍ باردة.. لكن دارفور تشتعل، والفاشر تنزف من المذابح والتطهير العرقي، وأهلها يدفنون أبناءهم بأيديهم.. لا يحتاج السودان إلى مزيد من القلق، بل إلى شجاعة دولية تضع حدًا للقتل المنهجي الذي تمارسه قوات الدعم السريع ضد مكوناتٍ بعينها.. ما يحدث ليس حربًا أهلية، بل إبادة عرقية منظمة يعرف مرتكبوها أنهم في مأمن من العقاب.

(8)
الفاشر ليست مدينة فقط، بل مرآة لما وصل إليه حال السودان.. فالحرب التي قيل إنها لحماية الدولة، دمّرت الدولة. والجيش الذي قيل إنه يقاتل لاستعادة الوطن، خسر الوطن في سبيل سلطةٍ ضيقة.. لم تعد هناك قضية سوى قضية الإنسان السوداني الذي صار وقودًا لمعارك لا تخصه.. وما لم يتوقف هذا الجنون، فإن السودان يسير بخطى ثابتة نحو ظلامٍ لا عودة منه.. نعم، نحن متجهون نحو (هيتو وهتسو جديد) ودولة على غرار ما يجرى في ليبيا.

(9)
نعم، الفاشر ستغيّر المشهد، لكنها قد تغيّره نحو الهاوية إن لم يستيقظ الضمير الجمعي للسودانيين قبل فوات الأوان.. ايها السودانيون هبوا لنجدة ما تبقى من وطن فما حدث هناك ليس نهاية الحرب، بل بداية لتفككٍ كامل، سيبتلع الجميع بلا استثناء.. لن يوقف هذا النزيف إلا موقف وطني صادق يقطع الصلة بين السلاح والسياسة، ويعيد الجيش إلى مكانه الطبيعي كحامٍ للوطن لا كأداةٍ لحركةٍ أيديولوجيةٍ عمياء.. فالسودان لا يحتاج إلى قائدٍ جديد، بل إلى ضميرٍ جديد، يعيد للوطن ما فقده من معنى، وللإنسان ما فقده من أمل.
اللهم بلغت.. اللهم فاشهد..
إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.