رشا عوض


 

خطورة الانقسام غير المعلن في حزب الأمة
رشا عوض

إن حرب الخامس عشر من أبريل 2023 قسمت الشعب السوداني بصورة تنذر بتقسيم البلاد، وقد انعكس هذا الانقسام بصورة حادة في حزب الامة القومي أكبر الاحزاب السودانية حسب آخر انتخابات ديمقراطية في البلاد عام 1986.
إذ نجد رئيس حزب الأمة المكلف اللواء فضل الله برمة ناصر وخلفه مجموعة من قيادات وجماهير الحزب اتجه الى الانخراط في تحالف السودان التأسيسي(تأسيس)، ونجد الواثق البرير الأمين العام للحزب وخلفه مجموعة من قيادات وجماهير الحزب منخرط في التحالف المدني لقوى الثورة(صمود) الذي تشكل بعد عملية “فك الارتباط” التي تمت في تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) بين تيارين داخل التنسيقية اختار احدهما التحالف السياسي مع قوات الدعم السريع وقد قرر هذا التيار تكوين تحالف تأسيس، واختار التيار الآخر عدم التحالف مع الدعم السريع والاحتفاظ باستقلالية القوى المدنية عن طرفي الحرب العسكريين وقرر تكوين تحالف(صمود)، وهناك مجموعة مؤيدة للجيش بقيادة الاستاذ محمد عبد الله الدومة الذي تم تعيينه بواسطة “مؤسسة الرئاسة” التي اعلنت إعفاء فضل الله برمة ناصر من مهامه الأمر الذي رفضه المكتب السياسي ببيان اعلن فيه ان مؤسسة الرئاسة غير مخولة دستوريا لفصل الرئيس، وتضم المجموعة المؤيدة للجيش عددا من القيادات ابرزهم نائب رئيس الحزب الفريق صديق محمد اسماعيل كما تضم مجموعة من جماهير الحزب.
وقد تابعنا حرب البيانات بين الفرقاء داخل الحزب الواحد وكلها حوت تفاصيل حول اختصاصات المؤسسات الحزبية وحدود صلاحياتها في سياق محاولة كل طرف إثبات شرعية تمثيله لحزب الأمة ومغالطة واقع الانقسام الماثل الذي يتهرب الجميع من الاعتراف به وإعلانه، وبلا شك فإن انقسام حزب الأمة ليس حدثا وطنيا سعيدا بل هو نذير شؤم على مستقبل وحدة السودان ككل، ولذلك نتمنى ان يتمكن الحزب من تجاوز وضعيته الحالية المربكة والمرتبكة الى وضعية الحزب السياسي المتماسك الذي يضيف وزنا الى الكتلة المدنية الديمقراطية، ومن موقعه المدني المستقل يختار الجهة العسكرية الاقرب إليه لينسق معها وفق مقتضيات الضرورة الوطنية ومصالح قاعدته الاجتماعية.
ما دام حزب الأمة الآن لا يمتلك ذراعا مسلحا يأتمر بأمر قيادته السياسية، فإن مكانه الطبيعي من وجهة نظري هو تحالفات القوى السياسية المدنية التي تسعى لتحرير السياسة من البوت العسكري على اختلاف فصائله.
استوقفتني في السجال الدائر بين فرقاء حزب الامة ولا سيما بعض الذين يعرفون موقفهم من حرب الخامس عشر من أبريل 2023 بأنه موقف رافض للحرب ويدعو للسلام والتحول الديمقراطي، بعض التناقضات والمفارقات التي تحتاج لنقاش هادئ وعميق، احاول ابتداره في هذه المقالة تحت عنوانين: حزب الأمة والجيش والخطاب(الدولجي)، حزب الامة وتأسيس والعلاقة مع الدعم السريع.
حزب الأمة والجيش والخطاب “الدولجي”
لاحظت في خطابات من يعارضون الدعم السريع من بعض قيادات حزب الأمة التماهي مع سرديات “ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة” وان الجيش قومي ومهني ويجب مساندته ضد المليشيا التي سوف تبتلع الدولة! مثل هذا الخطاب مقبول من “أفندية الخرطوم” ومن رموز الطبقة السياسية المخملية في الحواضر، ولكن من الغريب جدا صدوره من ممثلي حزب الأمة الذي تنحدر غالبية جماهيره من الريف والأقاليم المهمشة ، وقوامه كيان الأنصار الذي تأسس الجيش وتأسست الدولة على أساس تهميشه واستبعاده!
فما معنى ان يدافع حزب الأمة عن جيش أصل تكوينه هو الأورطات المصرية والسودانية التي قاتلت جيش المهدية وبعد هزيمتها نزحت شمالا ثم عادت مقاتلة في صفوف جيش كتشنر! وبعد ان قرر الاستعمار تكوين قوة دفاع السودان كان منهج تكوينها استبعاد الانصار واحتكار القيادة العليا لابناء القبائل التي كانت معارضة للمهدية! والدولة السودانية نفسها حتى في مؤسساتها المدنية كانت مشفرة ضد قواعد حزب الأمة مثلما كانت المؤسسات العسكرية مشفرة ضدهم! وهذا التشفير لم يتغير في دولة ما بعد الاستقلال، هو احد اهم الاسباب التي أطاحت بحكومات حزب الامة عبر الانقلابات العسكرية! حتى عندما امر عبد الله خليل الفريق ابراهيم عبود كقائد عام للجيش باستلام السلطة ، لم يكن انقلاب عبود رافعة سياسية للأنصار وحزب الامة بل كان رافعة لخصومه التاريخيين! وكان حزب الامة في مقدمة ضحاياه!
والتشفير لم يقتصر على الجيش ومؤسسات الدولة بل شمل الثقافة السياسية والخطاب الإعلامي المتواتر الذي كرس لعادات وتقاليد في النادي السياسي السوداني على رأسها المغالاة في تحقير حزب الأمة والتطرف في معاداته واعتبار ذلك اهم جواز مرور للدخول في نادي التمدن والتحضر السوداني! والعقل الذي غرس هذه الثقافة ضد حزب الامة بشكل خاص وضد الاحزاب عموما هو عقل الاستبداد العسكري الذي يعلم ان الافراط في كراهية الاحزاب وتحقيرها لدى الرأي العام سيهزم الديمقراطية ويجعل طريق الدكتاتورية العسكرية معبدا.
لكل هذه المعطيات يجب ان يتبنى حزب الامة خطابا نقديا تجاه الجيش والدولة، وان يكون رافعا لراية إعادة هيكلة هذه الدولة وجيشها على اسس عادلة لان المصالح العضوية لقاعدته الجماهيرية تقتضي ذلك! فلا يوجد سبب منطقي يجعل قيادات حزب الامة تتحدث بلسان (دولجي) مثل سدنة الدولة المركزية الظالمة للسواد الأعظم من جماهير الحزب، او بلسان افندية الخرطوم الذي يلهج بقومية ومهنية الجيش وتنسى هذه القيادات ان حزب الامة نفسه تمرد عسكريا على هذه الدولة وحارب جيشها مرتين! مرة في عام 1976 في احداث وصفها نظام مايو بغزو المرتزقة وللمفارقة نزع سودانيتهم وقال انهم تشاديين! ومرة في منتصف التسعينات عندما تكون جيش الامة للتحرير وحارب نظام الانقاذ!
حزب الأمة مصلحته المباشرة مرتبطة عضويا بالتحول الديمقراطي لانه لا يملك رافعة الى السلطة سوى الجماهير! ولن يستطيع الحزب توحيد جماهيره بخطاب الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وجيشها لان جزء كبيرا من هذه الجماهير لم ير من الجيش الا الانتنوف والبراميل المتفجرة، ولم ير من الدولة الا الإهمال، ولم يسمع من إعلامها الا التحقير.
حزب الامة و”تأسيس” والعلاقة مع الدعم السريع
خلال هذه الحرب سيطرت الماكينة الاعلامية الضخمة للكيزان على الفضاء الاعلامي وخلقت بيئة ارهابية واستقطابية حادة لفرض سرديتها الخاصة للحرب كحقيقة مطلقة لا يجرؤ احد على مناقشتها، وكل من لديه اعتراض او مجرد استدراك فهو خائن وعميل وخارج دائرة الوطن! وفي هذا السياق المطلوب كيزانيا من القوى السياسية السودانية جميعا ان يكون موقفها من الدعم السريع مطابقا تماما لموقف الحركة الإسلامية، أي الموقف العدمي الاستئصالي القائم على سردية تبسيطية خلاصتها ان الدعم السريع هو كتلة من الشر المطلق هبطت على السودان من السماء في الخامس عشر من ابريل 2023 لتحارب السودانيين وتخرجهم من بيوتهم وتنتهكهم، وتصدى لها الجيش وكتائب الكيزان من اجل انقاذ الشعب السوداني وبالتالي فان الواجب الوطني هو الاصطفاف خلف الجيش والكيزان دون قيد او شرط! هناك قيادات في حزب الامة من التيار المتماهي مع الجيش او الموالي للكيزان تتحدث وفق منطق هذه السردية التبسيطية في غفلة تامة عن تعقيدات الواقع الذي انتجته حرب الخامس عشر من ابريل، وعن معطيات لا يمكن القفز فوقها وعلى رأسها قصة تكوين الدعم السريع ودور الكيزان والجيش في ذلك وحقيقة هذه الحرب كصراع عسكري عسكري على السلطة فجره النظام البائد بهدف العودة الى السلطة ، وتطورات الاوضاع بعد عامين من الحرب تشير الى استحالة عودة السودان بعد هذه الحرب الى ما كان قبلها.
في هذا السياق المعقد ليس المطلوب من حزب الامة التماهي مع الدعم السريع والتعامل مع بندقيته كرافعة سياسية لمصالح قاعدته الاجتماعية، فهناك مشاكل بنيوية في الدعم السريع تحول دون ان يكون من الناحية الواقعية رافعة لتحقيق الاهداف التي يتبناها في خطابه النظري كالديمقراطية وتفكيك دولة 1956 (سافصل ذلك في مقالة لاحقة عن تحالف تأسيس)
ولكن بذات القدر ليس مطلوبا من حزب الامة او غيره من القوى المدنية تبني موقف عدمي من الدعم السريع او تحالف تأسيس الذي اصبح احد مفردات الواقع السياسي ذات التأثير على مستقبل البلاد، وانطلاقا من ذلك يجب البحث عن تفسيرات موضوعية للتأييد الذي يجده هذا التحالف وسط جزء معتبر من جماهير حزب الامة وغيره ، والبحث عن صيغ للتنسيق مع التحالف في اطار البحث عن السلام ووحدة البلاد ومواجهة معضلة تعدد الجيوش. ويمكن ان يفعل الحزب ذلك من منصته المدنية المستقلة التي تتمسك بان اساس الشرعية السياسية هو التفويض الشعبي الحر لا البندقية، لان تجربة تحالف الاحزاب السياسية مع الحركات المسلحة والرهان على بندقيتها في تحقيق التغيير اثبتت فشلها.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.