مصعب عبدالماجد
الحرب ليست مجرد مواجهة مسلّحة، بل هي شكل من أشكال الفعل السياسي حين تفشل أدوات الحوار الديمقراطي والتفاهم حول القضايا.
في معظم النزاعات، لا تشتعل الحرب من فراغ، بل تُغذّى بخطابات تحريضية وسرديات مضللة تهدف إلى شيطنة الآخرالمختلف، لتبرير العنف وكسب التأييد الشعبي. وغالباً ما تلجأ الأطراف المتحاربة إلى وسائل الإعلام لنشر تلك الروايات، في محاولة للتأثير على الرأي العام ومنحه شعوراً زائفاً بالمشروعية.
لفهم الواقع الراهن في السودان، لا بد من الرجوع إلى مراحل سابقة من تاريخ البلاد، خاصةً خلال حرب الجنوب في التسعينيات، عندما استخدمت السلطة حينها خطاباً دينياً متطرفاً لتعبئة المواطنين ضد الحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق. كان يتم تقديم الراحل للرأي العام في ساحات الفداء باعتباره كافراً وشيطاناً، مع تلفيق أقوال كاذبة نسبت أيضاً لشخصيات مثل فاطمة أحمد إبراهيم، بهدف زرع الكراهية ضد الجنوبيين والشيوعيين السودانيين. وقد لعب هذا الخطاب التحريضي دوراً كبيراً في تأجيج الحرب، وتعبئة الآلاف من الشباب للانخراط في القتال في الجنوب ولحق ذلك فتح معسكرات الدفاع الشعبي حماة السودان ، واستمر ذلك التحشيد على أسس دينية إلى أتت قضية دارفور في العام 2003 التي اخذت طابعًا عرقيا وقبلياً في الإقليم.
ومع اندلاع حرب دارفور في مطلع الألفية، ظهرت أشكال جديدة من خطاب الكراهية. فصُوّرت الحركات المسلحة على أنها “تشادية” تسعى لإقامة دولة الزغاوة الكبرى، وتعرضت بعض الأحزاب لوصمات بالإلحاد، كما تم إذكاء الصراعات القبلية وتسليح بعض المكونات، مما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي في الإقليم، ليس فقط بسبب الانتهاكات، بل أيضاً بسبب ما زرعته تلك السرديات من كراهية وانعدام للثقة بين مكونات المجتمع.
واليوم، مع اندلاع حرب 15 أبريل، نجد أن المشهد يعيد نفسه، لكن عبر أدوات إعلامية أكثر انتشاراً وتأثيراً. تبث المنصات المحسوبة على أطراف الحرب روايات مشوهة، تبرر الانتهاكات بدعوى الانتماء لطرف معين أو التعاون مع العدو، أو حتى لأسباب تتعلق بالهوية الجغرافية والتاريخية. لقد أصبح خطاب الكراهية أداة موازية للسلاح في تمزيق المجتمع، وتفتيت ما تبقى من روابط اجتماعية ووطنية.
وبالتالي، من المهم أن يدرك الجميع أن هذه السرديات والخطابات لا تستند إلى مبادئ فكرية او ثوابت، بل تتغير وتُعاد صياغتها مع تغيّر المصالح وموازين القوى بين الأطراف المتنازعة. فغالباً ما تنتقل من خطاب كراهية وتحريض، إلى خطاب مهادن أو حتى مناهض لما سبق الترويج له، وذلك بحسب ما تفرضه المصالح المتقلبة. وفي أحيان أخرى، قد تتخذ منحى أكثر تصعيداً في الكراهية والتحريض حسب التطورات السياسية.
هذا التغيّر المستمر في الخطاب يكشف زيف وعدم مصداقية ما تطرحه أطراف الحرب من سرديات ضد بعضها البعض. لكن المأساة الحقيقية تقع على المجتمع، الذي يتأثر بهذه الخطابات وينجرف وراءها، ليصبح في النهاية هو الضحية، بل وأحياناً جزءاً من الفاعلين في تمزيق النسيج الاجتماعي
إن استمرار هذا النوع من الخطاب يُشكل خطراً داهماً على السلم الاجتماعي وعلى مستقبل السودان كوطن موحد. وإذا لم نواجهه بشجاعة ومسؤولية، فسنفقد ما تبقى من هذا الوطن، ليس فقط على الأرض، بل في الذاكرة والضمير الجمعي.
من هنا، يقع على عاتق القوى الوطنية، التي ما زالت تؤمن بوحدة السودان وسلامته، أن تضطلع بدورها التاريخي والوطني . لا يكفي أن نرفض الحرب، بل علينا أن نعمل على إنتاج خطاب بديل يعبر عن مصلحة الوطن والمواطن ، يقوم على قيم التعايش والعدالة والاعتراف المتبادل بالتنوع الثقافي لهذا الشعب. وهذا يتطلب فهمًا عميقًا لطبيعة الحرب الراهنة وسياقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، والبدء الفوري في تهيئة المجتمع لمرحلة جديدة من المصالحة وبناء السلام.
فمن دون تفكيك خطاب الكراهية، ومواجهة أدوات التضليل، لن يكون هناك سودان يسع الجميع.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة