د. أحمد عثمان عمر
أثار المقال الأول جدلا محمودا وصراعا فكريا حرك ركود الساحة الفكرية، ودفع بعض الشيوعيين للدفاع عن تعاون حزبهم مع السلطة المعادية للشعب من مواقع التغيير الجذري، فتأمل!! ولأن الردود الفكرية انبنت على خلط للمفاهيم، كان لا بد من العودة للكتابة حول هذا الموضوع الواضح الذي يحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ لا التبرير والمكابرة ، باعتبار أن الهدف المشترك لقوى التغيير الجذري هو خدمة الجماهير بتبني قضاياها لا بتجاوزها والتعاون مع عدوها. ولضيق مساحة الكتابة في المقال الصحفي، نوجز توضيحاتنا فيما يلي:
١ توسل بعض الشيوعيين مقولات ماركس ولينين حول الاستراتيجية والتكتيك ، ليبرروا أن ما تم هو تكتيك يخدم قضايا الجماهير ، يسمح بالتعاون مع القوى الرجعية. ونسوا في خضم ذلك، أن التكتيك لا يجوز أن يتعارض مع الاستراتيجية ماركسيا وإلا أصبح موقفا انتهازيا، لأنه يضر بحركة الجماهير ومشروعها الاستراتيجي. وإذا كان مشروع الجماهير الاستراتيجي هو أهداف ثورة ديسمبر المجيدة ، فالتعاون مع سلطة الاستبداد المعادية لشعبنا ومشاركتها في آلية بعيدا عن حركة الجماهير وفي تجاوز لها، يتعارض تعارضا واضحا مع الاستراتيجية ويصبح انتهازية سياسية لا غير. ومن الضروري أن يرى المبررون أن التعاون هنا ليس مع قوى رجعية، بل مع سلطة رجعية معادية للشعب، أشعلت حربا في مواجهته ونهبت عبرها موارده واستنكفت حتى عن صرف مرتبات العاملين بالخدمة المدنية ناهيك عن تقديم خدمات.
٢ يحاول البعض الفصل تعسفيا بين السياسي والخدمي، بتبعيض “تجزئة” سلطات الحكومة ، واعتبار ان التعاون معها في الخدمي ليس اعترافاً بها! وهذا فصل متعسف لا أساس معرفي له. فالنضال المطلبي ضد الحكومة إن لم يكن نقابيا صرفا فهو سياسي بالحتم، ونضال اي حزب هو نضال سياسي حتى في المجال الخدمي، لأنه يستهدف أحد مهام السلطة التي تتمثل في توفير الأمن والخدمات وحماية الحدود وتمثيل السيادة، ولا يستطيع أي أحد تحويل دور السلطة الخدمي من سياسي لعمل تبرعي أو علاقة مطلبية. ويبدو أن الخلط ناشئ عن المظاهرات المطلبية التي تتحول إلى سياسية مباشرة تطالب بإسقاط السلطة، وهذا التراكم لا ينفي أن نضال الجماهير المطلبي سياسي طالما أنه موجه ضد السلطة، بل يختص بتدرج النضال من شكله المطلبي لشكله السياسي الشامل، ومن جزء إلى كل، فالنضال المطلبي ضد السلطة نضال سياسي ، أهدافه جزئية وليست كلية. لذلك التعاون في المجال الخدمي مع السلطة، هو اعتراف بدورها السياسي ، وتعاون معها في جزء من واجباتها السياسية نكرر السياسية، لذلك الادعاء بأن هذا لا يشكل اعترافاً بها كسلطة سياسية مغلوط، لأن الاعتراف بأي من أجزاء نشاط السلطة هو اعتراف سياسي، والدخول معها في آليات تكونها هو نشاطا سياسياً أيضا.
٣ الارتكان للضرورة وتقديم خدمة الجماهير على المثاليات كما يقول البعض، يفترض ان تجاوز الجماهير والنضال بدلا عنها سيقود إلى خدمتها! وهذا هو عين الخطأ وأساس الزلل والتخبط. فخدمة الجماهير لا تتم بمعزل عنها خصوصا في ظل سلطة معادية لحركة الجماهير . ويجدر بنا التساؤل هنا: ماهي أدوات الحزب الشيوعي التي سيضمن بها تنفيذ المبادرة؟ كيف سيلزم السلطة التي تعاون معها عبر آلية السلطة المقترحة بتنفيذ مبادرته؟ وماذا لو رفضت السلطة الاستمرار في التعاون معه بعد ان لوثته بالمشاركة في الآلية السلطوية المقترحة؟ هل سيعود الحزب للجماهير للضغط على السلطة؟ ان كانت الإجابة بنعم، لماذا تجاوز الحزب هذه الجماهير أصلا عند طرح مبادرته؟
٤ يزعم البعض ان الحزب يستطيع الآن وضع ضوابط شفافية واطلاع الجماهير وإشراكها في تنفيذ المبادرة، والسؤال المكرر هو لماذا لم يشركها من البداية؟ ولماذا بنى تعامله مع السلطة المعادية للجماهير على التعاون بدلا من إلزامها بإرادة الجماهير المنظمة الملتفة حول مبادرته والمختارة لمن يمثلها في اي آلية تتكون مع هذه السلطة؟ فالقاعدة هنا هي ان حركة الجماهير هنا في حالة صراع مع السلطة لا حالة تعاون، وان التناقض معها في كافة مستوياته تناحري، وان كان غير ذلك لماذا اعترض الحزب الشيوعي على التيار التسووي حين قرر التعاون والتحالف مع هذه السلطة نفسها في شراكات الدم ؟ هل لأن التعاون هناك كان على مستوى المشاركة في كامل السلطة لا في واجباتها الخدمية فقط؟ ان كانت الإجابة نعم، هل الحزب منفتح تجاه تعاون اي حزب او قوى سياسية أخرى مع السلطة في قطاع الخدمات؟ وهل يعني ذلك التعاون في القطاع الخدمي مع اي سلطة مهما كانت طبيعتها تحت دعاوى ان ذلك يخدم حركة الجماهير؟ هل نتوقع من فرع الحزب الشيوعي في نيالا تقديم مبادرة لحكومة الجنجويد لحل مشكلة المياه ايضاً أم ان هناك تفرقة لدى الحزب بين الحكومتين غير الشرعيتين؟
٥ يزعم البعض ان الظرف الأمني منع الحزب من عرض مبادرته للجماهير ، ونفس هؤلاء يزعمون بأنه يمكنه اشراك هذه الجماهير في تنفيذ المبادرة ، فكيف يستقيم ذلك وبأي آليات؟ فالسلطة حددت الآلية ولم تعط الحزب ضوءا اخضر امنيا للتواصل مع الجماهير بشأنها. والظرف الأمني سيظل قائما وربما يزداد سوءا أثناء عمل الآلية السلطوية.
٦ يخفف البعض مما اقترفه الحزب بالقول انه طلب من السلطة، وفي الحقيقة ان الحزب لم يقف عند الطلب بل تعاون مع السلطة ووافق على المشاركة معها في آلية فكيف تحكمون؟! والاسوأ ان ذلك تم بدعوى حل قضايا الجماهير بعيدا عنها وبتجاوزها.
٧ يبرر البعض تجاوز الحزب لحركة الجماهير، بالرغم من ان مشروعه الاستراتيجي هو العمل وسط الجماهير، ورفع وعيها وتنظيمها، لتقوم هي بفرض ارادتها على السلطة. وهذا ما ظلت عضويته تقوم به منذ اندلاع الحرب، ضمن لجأن الطوارئ والتكايا . ولكن فجأة تفتقت ذهن فرعه في عطبرة عن طريق آخر غير طريق الجماهير هو طريق التعاون مع السلطة!
٨ سلوك فرع الحزب بعطبرة عكس سلوك فرع الحزب بأم درمان الذي يعمل وسط الجماهير لمعالجة قضاياها معها لا بالنيابة عنها. ففي حين نعى فرع أم درمان عضوه خالد الزبير الذي استشهد في معتقلات استخبارات السلطة بعد ان كان عاملا في التكايا، قام فرعه في عطبرة بتجاوز حركة الجماهير والتعاون مع السلطة لحل مشكلة المياه. والسؤال هو لماذا يتعاون فرع عطبرة مع سلطة تقتل من يخدم الجماهير في أم درمان؟ وكيف توصل فرع عطبرة إلى ان السلطة التي تقتل من يخدم الجماهير في أم درمان ، ستقوم بخدمة جماهير عطبرة ؟ نحن في حاجة لشرح ديالكتيك هذه العلاقة الملتبسة مع سلطة طبيعتها واحدة ومنحدرها الاجتماعي معلوم في أمدرمان وفي عطبرة ايضا.
ولسنا في حاجة للقول ان نضال الحزب سياسي وليس مطلبي، وقضايا الجماهير في مواجهة السلطة في مستواها المطلبي سياسية ايضاً ، لأنها تطلب من السلطة القيام بدورها السياسي الخدمي.
كذلك التعلل بظروف الحرب لا يصلح سببا لتجاوز حركة الجماهير، بل يحتم حشدها ضد الحرب وسلطة الحرب التي تستخدم الموارد للحرب بدلا من تخصيصها للخدمات.
والسبب الأمني ايضا لا يصلح لتجاوز حركة الجماهير، فطرح المبادرة في بيان جماهيري لن تمنعه التدابير الأمنية ، وتحويله لمبادرة جماهيرية هو الأصح لما يلي من أسباب:
أ. يمكن الجماهير بالإمساك بقضاياها وتنظيم نفسها للمطالبة بحقوقها.
ب. يضمن وجود كتلة ضاغطة على السلطة المعادية .
ج. يمنع تكوين آليات تعاونية بين حزب سياسي مفرد وسلطة القمع.
د. يغلق باب الأوهام حول طبيعة السلطة.
هل يضمن الحزب ان السلطة ستنفذ مبادرته عبر الآلية المشتركة؟ ماذا لو ان السلطة رفضت تنفيذها او تباطأت؟ هل سيعود الحزب للجماهير التي تجاهلها أم سيفرض ارادته هو على السلطة التي بالأمس إغتالت عضوه في أم درمان؟ هل يمكن ان نسمي التعاون والمشاركة في آلية مشتركة مجرد نشاط مطلبي؟ هل الحزب حزب أم نقابة؟ هل يمكن لسلطة القمع والنهب تمويل المبادرة وترك تمويل الحرب أم ستلقي عبء التمويل على حركة الجماهير التي تم تجاوزها؟
لماذا وثق الحزب في هذه السلطة إلى حد انه تقدم اليها مباشرة بمبادرته وشاركها في آلية لتنفيذها؟ ما هو الضرر الذي سيلحق بالحزب في حال طرح مبادرته للجمهور صاحب الوجعة الذي يحتاج إلى حلول وتحويلها إلى مبادرة جماهيرية؟
تقديم المبادرة إلى السلطة قبل الجماهير هو ربط للعربة أمام الحصان، وعلى الحزب الشيوعي الاعتراف بهذا الخطأ وتقديم نقد ذاتي جماهيري بأسرع وقت ممكن وترك المكابرة والتبرير، وإن عدتم عدنا.
وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!!
المصدر: صحيفة الراكوبة