خدعة المقاومة الشعبية والاستنفار
إن النظام البائد وزبانيته من أساطين الدولة العميقة والمنحازة ، الذين يحشدون المقاومة الشعبية المسلحة تحت مظلة الدفاع عن الوطن كهدف نبيل ، لكن في الحقيقة انهم يخفون نواياهم الحقيقية الداعية والداعمة لاستمرار سيطرتهم ونهب ثروات البلاد. هذه الاستراتيجية المضللة تهدف إلى ضمان توسيع دائرة إخضاع الأقاليم واستغلال مواردها لتعزيز قوة فئات معينة دون النظر إلى مصلحة الشعوب السودانية ككل. يُستخدم شعار “المقاومة” كستار لتبرير الأفعال التي تُدمر النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد بدلاً من تطويره وتنميته ، مما يجعل منها النداء الصادق الذي يستخدم لتحقيق مآرب خاطئة ومدمرة.
الانتفاضة الشعبية في السودان ، على مر التاريخ تحاول أن تجسد نضالًا مستمرًا وتعبيرًا حقيقيًا عن إرادة الشعوب السودانية ، حيث استخدمت الاحتجاجات السلمية والإضراب السياسي والعصيان المدني كأساليب فعالة للضغط من أجل التغيير السياسي والاجتماعي. رغم نجاح هذه الانتفاضات في إزاحة ديكتاتوريات متعاقبة ، إلا أنها واجهت صعوبات جمة في تفكيك أركان الدولة العميقة ، التي ظلت تتلون وتتكيف مع مختلف الظروف خاصة الانقلابات العسكرية للحفاظ على سيطرتها على مقدرات البلاد وتوسيع دائرة الفقر والإقصاء في الأقاليم.
للأسف ، تم تحوير مفهوم المقاومة الشعبية السلمية واستغلاله بشكل ممنهج من قبل النظام البائد والجبهة الإسلامية ، حيث تم تحويلها إلى حرب بالوكالة عبر الاستنفار المسلح. استخبارات الجيش والأمن ، بدلاً من أن تقوم بدورها في حماية المواطنين ، عمدت إلى تجييش وتسليح الناس بدعوى الدفاع عن النفس ، مما جعل المواطنين يقاتلون نيابة عن قوات جيش هرب قادته الى بورتسودان لم تف بواجبها. هذه الاستراتيجية أدت إلى استغلال المقاومة الشعبية لأغراض سياسية وأمنية ، وقد كان لهذا تأثير مدمر على النسيج الاجتماعي والأمني في السودان.
يُمثل التمييز بين النضال الحقيقي من أجل الحرية والعدالة وبين المناورات السياسية التي تستغل تطلعات الجماهير الرافضة لحكم الإسلاميين واحتكار السلطة والثروة من قبل الدولة العميقة على مر تاريخ السودان، التحدي الأكبر الذي يواجه المقاومة الشعبية الاصيلة. هذا التحدي يتطلب من السودانيين البقاء يقظين ومنتبهين لكل المحاولات التي تسعى لتحريف مسار هذا الحراك الجماهيري الذي ينشد السلام والحرية والمساواة والعدالة نحو أهداف تعزز الانقسام وتقوي فرص الحرب والاقتتال الأهلي الذي سيغرق السودان في دوامة العنف الأبدي.
فقط من خلال الالتزام الراسخ بقيم الانتفاضة الشعبية المقاومة وتوجيهها نحو تحقيق أهداف نبيلة ، يمكن للسودان أن يشهد حراكا جماهيريا قويا يناهض خطاب الكراهية ويقاوم الحرب ويفتح الطريق نحو تحقيق السلام الدائم والاستقرار الحقيقي. هذه المقاومة يجب أن تظل رمزًا للوحدة والتضامن في مواجهة أي قوة تحاول استغلال هذا النضال من أجل مصالح ذاتية ضيقة وتحويله إلى أداة للتفرقة أو العنف. لذا ، من الضروري أن ترتكز جهود المقاومة على بناء مؤسسات تعزز السلام والعدالة والديمقراطية وتحمي حقوق جميع المواطنين بشكل فعال.
عندما تُستغل شعارات المقاومة الشعبية بشكل خاطئ، تتحول إلى آلية تعزز الانقسامات وتصاعد العنف داخل المجتمع. المجموعات المتخفية تحت ستار المقاومة والتي تستولي على إدارتها وقد بدأت بالفعل في فرض رؤيتها عبر التخويف أو القوة ، والتجسس والقمع تحت مظلة قانون الطوارئ أو بدعوى الاشتباه أو قانون الوجوه الغريبة فصارت واجهة فعالة للامن الشعبي سئ السمعة. أفعالها أدت إلى إقصاء الأصوات المعتدلة وتقويض الدعوات المنادية للسلام. النتائج المأساوية لهذا التحريف تظهر جليًا في التحول الدراماتيكي للمدنيين من أفراد غير مسلحين إلى مقاتلين ضمن ساحات القتال او يتجسسون على اقرانهم بدعاوى باطلة ، الأمر الذي يضعهم في مواجهات مسلحة غير متكافئة في المعارك. وحينما يتم الاشتباك معهم تتعالى أصوات أبواق الإعلام للدولة العميقة باستهداف المدنيين.
على سبيل المثال ، حينما أعلن البرهان أن مناطق مثل ود مني والجزيرة تضم أعدادًا كبيرة من أعضاء المقاومة الشعبية بلغت ٤١ ألف ، تحولت هذه المناطق إلى أهداف عسكرية مباشرة لقوات الدعم السريع ، مما أدى إلى تفاقم الوضع في الجزيرة وخرجت من قبضت البرهان. هذا النهج لا يعرّض المدنيين للخطر فحسب ، بل يحولهم إلى أدوات في لعبة الحرب ، حيث يتم تحريضهم على حمل السلاح والمشاركة في القتال ، وهو ما يجعلهم هدفًا مشروعًا في أعين المقاتلين ضد الجيش المختطف. ويتم التضحية بهم من أجل تحقيق نصرا اعلامية وليس عسكريا اذ ان هذه الحرب هي حرب الاعلام من الدرجة الاولى.
النتائج الكارثية للمقاومة الشعبية المختطفة لا تقتصر فقط على الضحايا من المدنيين ، بل تمتد أيضًا إلى كيفية استغلال النظام البائد لهذه المعاناة. بدلًا من حماية المواطنين ، تم دفعهم إلى معارك لا تتوافق مع قدراتهم، مما سمح للنظام البائد باستغلال هذه الفوضى لإيجاد منافذ لكسب التأييد الشعبي. علاوة على ذلك ، وجدت قوات الدعم السريع نفسها مضطرة للتعامل مع هذه الأوضاع المعقدة دون استراتيجيات فعالة ومدروسة مسبقا ، مما أثر سلبًا على سمعتها وكفاءتها. لكنها هي الحرب التي تأتي حزمة كاملة متكاملة وهذه الانحرافات والانتهاكات جزء أصيل من تركيبتها ، لذا وقف الحرب مقدما على دفع المدنيين للتسلح والدخول في حرب معقدة ومركبة ليست لهم القدرة عليها. وقف الحرب يودي الى وقف جميع الانتهاكات.
في هذا السياق ، تبرز الحاجة الماسة لإعادة تقييم وتصحيح مسار المقاومة الشعبية ، لضمان بقائها وسيلة للتغيير الإيجابي ، ولتعزيز خطاب السلام والرفض القاطع للحرب وللزج المدنيين في المعارك. حيث أصبحوا أدوات لحرب الدمار والانقسام.
للأسف ، شهدنا كيف تم استغلال مفهوم المقاومة الشعبية لتبرير وتعزيز أجندات قمع المواطنين المعارضين لحرب لبرهان وزمرته العسكرية والسياسية كامتداد للأنظمة الاستبدادية في تاريخ السودان. بدلاً من أن تكون المقاومة الشعبية منصة ووسيلة للدفاع عن الحقوق والحريات ، تم تحويلها إلى أداة للقمع والسيطرة. على سبيل المثال تم الإعلان على أنها تهدف إلى “مقاومة الدعم السريع” و”العناصر المزعزعة للاستقرار في المجتمع”، وهي في الحقيقة استخدمت لتخويف المواطنين البسطاء واستغلال هذه الادعاءات كستار لقمع المعارضة السلمية التي تناضل من أجل وقف الحرب وإنهاء معاناة المدنيين. هذا التوظيف المشوه للمقاومة الشعبية وتاريخها النضالي المرتبط بالنضال السلمي يُمثل تهديدًا خطيرًا للنسيج الاجتماعي والديمقراطي في أي دولة ، حيث يتم إسكات الأصوات الداعية للسلام والعدالة تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار الوطني.
من الضروري للمجتمعات والنشطاء والمراقبين أن يكونوا يقظين ومدركين للطبيعة المزدوجة للمقاومة الشعبية التي قام النظام البائد بإدخال المدنيين فيها. يتوجب على الجميع التمييز بين المقاومة الشعبية الأصيلة التي تمثل إرادة الشعب وتلك التي تُستغل لأغراض مشبوهة. فقط من خلال الفهم العميق والنقد الذاتي يمكن تجنب الوقوع في فخ المقاومة الشعبية المُختطفة التي تعيق السلام وتخدم أجندة الحرب ، وضمان أن تظل هذه الاستراتيجيات وسيلة حقيقية للتغيير الإيجابي وليست أداة للدمار والانقسام.
لابد من إعادة تنظيم وتوجيه المقاومة الشعبية لتخدم خطاب السلام والتحول المدني الديمقراطي ، وتعزيز قيم الحريات. هذا يتطلب وصولاً إلى دولة تنتهج نهج السلام والحوار وتعززه ، بدلاً من تأجيج نار الحروب والاقتتال. يجب أن يتم تحرير الجماهير من قبضة المتطرفين الذين يؤججون النعرات العنصرية وخطاب الكراهية ، وإرشادهم نحو رحاب الرفعة والسمو والفضيلة. إن إقامة دولة مستقرة ومزدهرة، متصالحة مع العالم ومع نفسها ومجتمعها ، تحتفي بالتنوع والتعدد كقوة رافعة للمستقبل ، هو الهدف الذي يجب أن يُسعى إليه بكل جهد.
المصدر: صحيفة الراكوبة