خالد عمر يوسف

نحن نعيش الآن في زمان لي عنق الحقائق حد الكسر، دون أن يرمش لمخترعي أحاجي التلفيق هذه جفن. نعيش في وقت يغرس فيه القاتل سكيناً في قلب الأعزل، ومن ثم يسير في جنازته مشيعاً القتيل باللعنات، ومن خلفه يهتف الهتيفة ضد وحشية المقتول، ويواسون السفاح الذي يذرف دموع التماسيح.

أحد أكبر أكاذيب هذه الحرب هي أحجية أن الحركة الإسلامية السودانية هي ضحية إقصاء جهات ما لها، والحقيقة أن إسلامويي السودان هم الجماعة الإسلاموية الوحيدة في المنطقة التي لم تتعرض للقمع في بلدها، بل على العكس تماماً، هي الجماعة التي قَمَعت الغير بالحديد والنار، مرتكبة كل الموبقات والجرائم التي بدأتها بدق مسمار في رأس طبيب، واستمرأتها بالإبادة الجماعية في الجنوب ودارفور، وانتهت باغتيال معلم في بيوت الأشباح بوسيلة تعف النفس عن ذكرها.

فلنرى في عجالة مسار هذه الحركة، وكيف استقبلها المجتمع والدولة في السودان باللطف والاحتواء، فكافأته على ذلك بمسيرة طويلة من الدماء والعنف الذي لا يحده حدود.

1 في العام 1977 صالحت الحركة نظام السفاح نميري، ودخلت الاتحاد الاشتراكي، وتقلدت المواقع في سلطة مايو الانقلابية، وكانت العقل المدبر لاغتيال خصومها السياسيين مثل أ. محمود محمد طه الذي أعدم جوراً، ولم تفارق السلطة، إلا قبل الانتفاضة بأشهر قليلة، وحين سقط الدكتاتور لم تحاسب الحركة، بل فُتح لها المجال، فكانت ثالث انتخابات العام 1986 التي هندستها عبر عناصرها في المجلس العسكري والحكومة الانتقالية.

2 خلال الديمقراطية كانت الجبهة الاسلامية شريكاً في الحكومة، تقلدت المواقع ودخلت وزارات، وخرجت من أخرى، ولم تُقص أو تُحل كما فُعِل من قبل الحزب الشيوعي في الستينيات، وحين لاح برق السلام عبر اتفاقية الميرغني قرنق في العام 1988، سلام دون تقسيم ودون إطالة لأمد الحرب، نفذت انقلابها المشؤوم، وادعت بأن الحسم العسكري قادم وقريب، فكان حصاد ذلك 16 عاماً أخرى من الحروب انتهت بتقسيم السودان لبلدين وتحويله لدولة منبوذة بصورة لم يشهدها من قبل.

3 عقب استقلال جنوب السودان، وفي عز الأزمة التي ضربت البلاد، وعوضاً عن حفظ السلام في المنطقتين، هاجمت قوات نظام الحركة الإسلامية كادوقلي، ومن ثم الدمازين لتبدأ الحرب مرة أخرى في السودان الشمالي، وكانت من قبل قد نقضت اتفاق أبوجا، لتعود دوامة القتال تعصف بالبلاد دون رحمة، ورفض نظام المؤتمر الوطني في كافة جولات التفاوض مجرد وصول الغذاء لأهل المناطق المنكوبة بالحرب، ناهيك عن وقف قصف الانتنوف العشوائي الذي أهلك الحرث والنسل.

4 حين اخترع النظام مسرحية الحوار الوطني في العام 2014، وشارك فيه حزب الأمة القومي، كان جزاء ذلك أن اعتقل النظام الراحل الإمام الصادق المهدي، نسبة لتصريحاته ضد الدعم السريع، الذي تدعي الحركة الإسلامية اليوم “موقفاً صفرياً” منه، والحقيقة هي أنها من خلق ظاهرة الجيوش الموازية والجماعات المسلحة داخل جهاز الدولة وخارجها، تُقربها إذا ما كانت أدوات لها في القمع، وتدعي موقفاً مضاداً لها إن خرجت عن طوعها.

5 لما ثار الشعب، وخرج بالملايين في ثورة شعبية لفظت نظام الإنقاذ البائد، حركت هذه الجماعة عناصرها داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية التي ظلت تخترقها لسنوات طوال بشهادة قياداتها الموثقة والتي لا يمكن إنكارها واستخدمتها في خنق الحكومة الانتقال عبر إثارة الأزمات لإفشالها، ولما خاب مسعاهم، وظل الانتقال يتقدم من نجاح لنجاح، نفذوا الانقلاب صحبة قيادتي القوات المسلحة والدعم السريع، وحين أبطل الشعب بهبته العظيمة الانقلاب، أشعلوا حرباً ضروساً وجهت نيرانها لصدور المدنيين في عقاب جماعي للثورة التي خرجت ضدهم. فسعوا لمحو كل شيء متعلق بها حتى رسوماتها في الجدران، وأعادوا مرة أخرى ضوضاء أول التسعينات في فيلم معاد ومشروخ، واستخدموا ذات الوجود في الأجهزة الأمنية والعسكرية لقطع كل طريق لإطفاء نار الحرب بشهادة قياداتهم، كيف لا وهي الحرب التي أعادت لهم البريق كما قال أحدهم.

فهل فعلاً بعد كل هذا يحق لأحد أن يدعي بأن الحركة الإسلامية ضحية “للإقصاء”؟! أم أن الحقيقة هي أن مشروع الإقصاء الأعظم في السودان قد تجلى في هيئة منظومة إرهابية تسمى المؤتمر الوطني/الحركة الإسلامية، وأن هذا المشروع الإقصائي معزول شعبياً وضعيف، لا قوة له سوى اختطافه لبعض من سلاح الدولة عبر اختراقه للمؤسسة الأمنية والعسكرية، وإنه لا يقبل سوى لغة الهيمنة الكاملة بدليل مساره منذ النشأة حتى الآن،

وعليه، فإن السؤال الحقيقي هنا:

هل يمكن بلوغ السلام والحرية دون مواجهة مشروع الإقصاء الوحشي هذا، وهو المشروع الذي لم يؤمن بالحوار مطلقاً، ولم يرد بالبلاد سلاماً، ولم يظهر للحظة قولاً أو فعلاً أي تراجع عن هذا المسار؟

الحقيقة هي أنه بعد كل هذه العقود من التجارب الأليمة، فإن مشروع الحركة الإسلامية لم يترك لأي شخص يريد انعتاق البلاد من دوامة العنف والاستبداد سوى خيار المقاومة والمواجهة، والتي تؤمن القوى المدنية بأن السلمية هي طريقها الأسلم والأقوم، والذي انتصر من قبل في ديسمبر على الشمولية، وسينتصر لا محالة مرة أخرى على الحرب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.