حسن عبد الرضي الشيخ
رغم ربطات العنق المصقولة والبدل الأنيقة التي توحي برُقيٍّ ظاهري، تطل علينا من شاشات الفضائيات كائنات خطابية تُشبه من خرجوا للتو من كهوف القرون الوسطى، لا تمت لإنسان القرن الحادي والعشرين بأي صلة. يتحدثون بلغة متخشبة، فكرتها متحجرة، ومواقفها مفصّلة على مقاس الولاء الأعمى لحكومات الدم والدمار، لا على أساس الحقيقة ولا المبدأ.
في مشهد يُفترض أنه إعلامي، يُطلّ “محلل سياسي” ليدّعي بكل استهتار بالعقل والمنطق أن قتل الإنسان بدم بارد، وانتهاك جميع حقوقه، ونهب كل ممتلكاته، ورميه بالبراميل المتفجرة، واستخدام الأسلحة المحرّمة، هي “حرب للكرامة”، وأن الجيوش بكل تشكيلاتها وقياداتها، التي تتولى كِبَر كل ذلك العبث، هي من نالت حب الشعب وامتلكت قلبه، وهي من يحق لها وحدها أن تتحدث باسم الشعب السوداني المنكوب في كل أرجاء البلاد المغتصبة. وأن القوى السياسية والمدنية وشباب ثورة ديسمبر المجيدة كلها، وخاصةً حركة “صمود”، تمثل الجناح السياسي لقوات الدعم السريع، متجاهلاً بشكل فج كل التصريحات والمواقف التي تعارض حكومة “تأسيس” ذاتها.
فأي تحليل هذا؟ وأي محلل لا يستطيع التفريق بين تحالف ظرفي وموقف مبدئي؟ بل أي عقل هذا الذي يُصدّق أن حكومة “بورتوكيزان”، التي لم تعترف بها حتى الجغرافيا، يمكن أن يُقارَن وضعها الدولي بأي حكومة، حتى حكومة “تأسيس” التي فرح بأداء قسم رئاستها البعض، وعارضها البعض، ويتوجّس منها الكثيرون؟ إنها حكومة تفرض نفسها اليوم على واقع يتشكل من دماء ومعاناة الملايين و”ريالة” المحللين السياسيين.
ثم نصل إلى ما هو أدهى: صمتٌ مُطبق، ونفاقٌ صارخ، تجاه الأدلة الدامغة على استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا؛ غاز الخردل، والأسلحة الكيماوية، التي لم تُستخدم في معركة ضد عدو خارجي، بل وُجّهت ضد المدنيين، ضد الشعب.أين أصوات “الخبراء” حينها؟ أين ضمائر “المحللين” وهم يرَون أحلام وطن تُحرَق تحت سُحب الغازات السامة؟
لكن يبدو أن العدو لم يعد على الحدود، بل في الاستوديوهات. هناك، حيث يجلس من لا يرى في المذبحة سوى “مصلحة وطنية”، ومن لا يسمع سوى صدى حكومته المُدللة، يُحاضرنا عن الذكاء الاصطناعي في تحليل خطابات حميدتي، بينما يغرق الناس في مستنقع من الجهل والحرب والتشريد.
حميدتي، الذي وصفه البعض بالميت، يؤدي القسم اليوم رئيسًا للمجلس الرئاسي لحكومة السلام “تأسيس”.
والكارثة ليست في أنه أدى القسم، بل في أن صُنّاع الرأي المُضللين لم يتوقفوا عن تغليف الكارثة بورق فنّي فاقع باسم “التحليل”، ولم يعتذروا لنا عن كذبتهم البلقاء التي (دوشوا) بها رؤوس الكثيرين، بأن حميدتي قد مات وشبع موتًا.
هكذا ضيّعوا الوقت، وأضلّوا الناس، وساهموا في تعميق المستنقع.أم هل من أدى القسم اليوم هو “بُعاتي”، كما أحرجنا سابقًا سفير السودان في ليبيا، وعلى الهواء مباشرةً على إحدى شاشات القنوات الفضائية؟
والسؤال الصريح الذي يجب أن يُطرح الآن: من أين أتى هؤلاء؟ كيف صعدوا إلى شاشاتنا؟ من منحهم شرعية الكلام باسم الواقع وهم لا يرونه إلا من نافذة الطغيان؟
أما قائمة دعاة التضليل من الإنصرافي إلى ندى القلعة، وضياء الدين بلال، ومزمل أبو القاسم، وعثمان ميرغني، وحسن إسماعيل (طرحة)، ومحمد عبد القادر، وخالد الإعيسر، وأم وضاح، ورشان أوشي، وداليا “اليأس”، وعائشة الماجدي، وعبد الماجد عبد الحميد، والهندي عز الدين، والطاهر ساتي، والطاهر التوم، وسواهم فهؤلاء لم يكونوا مجرد متفرجين على الخراب، بل كانوا من صُنّاعه.شاركوا في صياغة سردية كاذبة، خدروا بها البسطاء، ودفعوا شعبًا بأكمله إلى الهاوية.بل كل من قال “بَل” و”جغم” عليه أن يتحمل مسؤولية ما جرى، وما سيجري. فالكارثة لم تكن مفاجأة، بل نتيجة طبيعية لصمتكم عن الحق، وارتزاقكم على حساب الحقيقة.
المصدر: صحيفة الراكوبة