حين تسقط الدولة في فندق.. كامل إدريس.. بين رصانة الرياض وعبث الخرطوم
أحمد عثمان جبريل
❝ أسوأ ما يمكن أن تفعله الدولة بشعبها، أن تجعله يشعر بالخجل من صورته أمام العالم ❞
ألبير كامو
حين تنهار مهنية الدولة، لا تسقط فقط مؤسساتها، بل تنهار معها الهيبة، وتُسحب من المواطن آخر أوهامه بالانتماء إلى كيان محترم. فالدبلوماسية ليست ترفًا سياسيًا، بل هي مرآةٌ أخلاقية تعكس كيف يرى العالم هذا الشعب، ومن يُمثله.
وما حدث أمس باسم “الزيارة الرسمية” إلى المملكة العربية السعودية، لم يكن مجرد تعثر بروتوكولي أو فشل في التنسيق، بل كان سقوطًا كاملًا للرمزية، والجدارة، والتقدير.
ليقفز من بين ثنايا هذا العبث السؤال الموضوعي.. متى تحوّلت الدولة إلى حقيبة سفر؟.
فما حدث لا يمكن تسويقه كـ”خطأ عابر” لمراسم سمحت بوجبة في مطعم انتهت بكارثة، ولا وصفه بسوء التقدير فحسب.. لقد بدا وكأن وفدًاً جاء من لا مكان، إلى لا شيء، وخرج بلا أي شيء. جلس رئيس وزراء السودان في فندق لثلاثة أيام في انتظار لقاءٍ لم يُنسّق له أحد، ولا رتّب له أحد، ولا فكّر فيه أحد.. أو هكذا يبدو، لا لقاءات رسمية، لا برنامج عمل، لا أجندة واضحة، ولا حتى اجتماع تقليدي مع الجالية السودانية، كما جرت العادة، في مثل هذه الزيارات.
إنهاء زيارة دراماتيكية، انتهت إلى مشهد سريالي. فقد نُقل رئيس الوزراء إلى المستشفى بعد تناوله وجبة في أحد مطاعم الرياض، ليبقى في المستشفى تحت الملاحظة الطبية، ثم العودة به لخدمته الفندقية، حتى يعود إلى الخرطوم كما جاء بخفيّ حُنين، دون أي مكسب دبلوماسي، أو حتى موقف إعلامي يبرر ما حدث.. (ما هذا الابتلاء ألا يكفي هذا الشعب هوان الحرب).
ومع هذا الإرباك المحرج، تصرفت الرياض تصرف الكبار، فقد تميز الموقف السعودي برقيّ لافت، أعاد التذكير بمهنية دبلوماسية واعية تعرف كيف تحافظ على توازن العلاقات، وتحفظ ماء وجه الضيوف حتى في لحظات الإخفاق.
فقد زار الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي رئيس الوزراء زيارة خاصة في مقر إقامته، حاملاً رسالة لبقة، لكنها واضحة: (نقترح إعادة جدولة الزيارة في وقت لاحق، بعد أن تتهيأ الأجواء المطلوبة لنجاحها) بهذه الطريقة الأنيقة، قالت السعودية كل ما يجب أن يُقال: الزيارة بلا مضمون، والحوار بلا سياق، والوقت غير مناسب.. لكنها قالت ذلك، بلغة تحترم السودان وخصوصية علاقته الحميمية به، لا الأشخاص، وتحمي تلك العلاقة من التلوث العابر لسوء التقدير.. سوء تقدير الدبلوماسية السودانية التي لم تستطع قراءة ما بين السطور في بيان الرباعية والتي تمثل السعودية أحد أضلعها، وهذا يعني أن الخرطوم، ببساطة، لم تُحضّر شيئًا، وأرسلت رجلاً يتحدّث باسم الدولة، لكنه بلا أدواتها، فلا فهمت الدبلوماسية السودانية، ولا الرجل ماذا تريد السعودية، وهناك مطلوبات من (الرباعية) تركوها خلفهم ويمموا أطرافهم نحو السعودية.
إن الدبلوماسية السودانية، تمتلك إرث نراه أمام أعيننا يُشوَّه.. فما جرى ليس مجرد فشل مراسم، في وجبة تناولها ضيف بحجم رئيس وزراء. بل تعدٍ فجّ على تاريخ الدبلوماسية السودانية التي كانت، يومًا، واحدة من أكثر الأجهزة احترامًا في أفريقيا والعالم العربي.. تعلمت منها دول، وقادها رجالٌ حملوا السودان في ملامحهم وسلوكهم وملفاتهم: جمال محمد أحمد، عمر يوسف، فرح عطية، أحمد خير، وآخرون، صنعوا للمؤسسة سمعة جعلتها تُحترم حتى حين تُخفق الدولة.
أما اليوم، فقد تم تقزيم هذه المؤسسة إلى ملحق مرافقةٍ لرحلات بلا خطة، وصار اسم السودان يمر على جداول البروتوكول الأجنبي بلا توقير.
كامل إدريس، الذي طُرح كخيار مدني “تكنوقراطي” في لحظة كانت البلاد تبحث فيها عن صوت عاقل ومتزن، سرعان ما انزلق إلى خيارات وخطابات لا تُشبه اللحظة، بل تعمق المأساة.. ففي وقتٍ كان فيه العالم يتطلع إلى قيادة تحمل مشروع (سلام حقيقي) اختار الرجل أن يُزايد بخطاب حربي، جاءت أولى كلماته معبرة عن فكر ومنهجية (بل بس) كلمات ارتبطت في الوعي الجمعي بحقبة الاستبداد والصراع.. ففتح الباب عن قصد أو عن غفلة لتبني افكار ورؤى علي كرتي وأحمد هارون وأسامة عبد الله، حتى بدا كما لو أنه يُجري تمرينًا سياسيًا لإعادة تدوير مشروع النظام القديم، لا لفتح صفحة جديدة.
واليوم، لا يبدو أن كامل إدريس يواجه معارضة سياسية تقليدية، بل “يتآكل من الداخل ببطء، تحت وطأة خياراته الخاطئة، وصمت محيطه، وتخلي من راهنوا عليه مبكرًا”.. إذ لا نرى أحدًا يتحرك لانتشاله من هذا الانحدار، إما لأنهم لا يملكون أدوات الإنقاذ، أو لأنهم ببساطة لم يعودوا يرونه جديرًا به.
الواقع أن ما كشفته زيارة الرياض يتجاوز اسم رئيس الوزراء، ويتعدى حدود سوء التنظيم، ليصل إلى لبّ الأزمة: “غياب المشروع، وانعدام الكفاءة، وسوء تقدير اللحظة السياسية والتاريخية”.
وفي بلدٍ ينزف بهذا الشكل، لا يكفي أن تكون نزيهًا أو تكنوقراطياً، بل لا بد أن تكون قادرًا، حاضرًا، وملمًا بتعقيدات المرحلة وخطورتها.
وهنا يتوجب علينا أن نقول : “إذا بقي في الرجل بقية من صدق، أو حرص على السودان، فإن خروجه من المشهد اليوم أنبل له من الاستمرار في دورٍ بلا جمهور، بلا مشروع، وبلا أفق.. إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير