حين استقال عوض الله من حزب المؤتمر الوطني!
رأيت عوض الله، لم أره شخصيا في البداية، رأيت العالم كما كان يراه هو، من خلال عينين قلقتين، تقفزان بهلع مثل (ميزان الموية): عالم خامد غارق في جحيم الضوء وقيظ الساعة الثالثة بعد الظهر. لا شيء فيه ينذر بالفرح أو يغري بمواصلة الحياة.
كان صديقا، رغم أنه كشف هشاشة صداقته، فذات مرة كنا نلعب الحريق، وتوليت أنا كتابة عدد بقية الاوراق في كل لعبة، لا حبا في سلطة الكتابة، بل لسبب بسيط أن عوض الله لا يجيد القراءة أو الكتابة.
حياته قلق دائم، لا يعرف منه ولا حتى هدنة قصيرة، حكى لي مرة بأسى أنه لا يستطيع حتى قراءة الارقام وانه كسائق لا يعرف ارقام العربة التي يقودها، أوضح: (مرة في البنطون سألني العسكري الذي حضر لتحصيل الاجرة عن رقم السيارة، وكنت انا جالسا الى المقود، قلت له (ما تشوف الرقم عندك، انا البرة والا انت؟)!
عرضت عليه أن اساعده في التعلم، حضر كالعادة الحصة الاولى ثم اختفى، عرفت أنه سافر، ولم يعد الى القرية الا بعد سنوات.
نعود الى هشاشة صداقته، في تلك المرة كانت (قافلة معه)، لعب الورق بصورة رسمية، يلقي الورقة ارضا بقوة حتى تكاد تتمزق، كنا نجلس في الفناء، من فرط القيظ يبدو المكان مثل فرن اطفئ للتو، لا يزال يتنفس بقية حرارته، تعبر الوالدة احيانا وتعطيه السلام، فيرد عليها بالإكبار اللائق، يوقف اللعب ممسكا بورقة (البائظ) في الهواء، ويرحب بها بصوت جهوري، يعطيه منظر اليد المرفوعة في الهواء، والكرت في نهايتها بين الاصابع، منظر قائد منتصر في معركة ما يخاطب حشد جنوده، قائد حقيقي وليس مثل قادة هذا
الزمان، الفريق فلان، والجنرال علان، ثم تكتشف ان الجنرال علان، لم ير الكلية الحربية في حياته، وأنه أنعم على نفسه بالرتب والنياشين دون تدريب أو امتحان او وجع رأس!
لكن في ذلك اليوم كان معدل جنونه مرتفعا، حين حيّته الوالدة اكتفى فقط برد التحية بصورة رسمية: تحية عسكرية صامتة! وضع يده التي تحمل البائظ فوق جبهته وخبط قدمه في الاسفل وهو جالس، مثيرا عاصفة صغيرة أسفل المقعد الذي يجلس عليه، لم تكترث الوالدة للتحية العسكرية (المُكلفتة) رغم أنها (كملكية) كانت ستفضل رده اليومي الفخيم.
كان حظه ايضا سيئا تلك الليلة، فقد انقبض عدة مرات وهو يحمل (هبابة) الورق كاملة، لم يكترث حين ذكّرته بمقولة صديق آخر كان يطلق على من يسلّم أوراقه كاملة: الأرض الصادقة. عبارة تطلق على الارض ليست الصادقة بل غير الخصبة او المستهلكة، التي حين تبذر فيها جوالا واحدا تُفاجأ في نهاية الموسم الطويل وبعد سهر السقي وحمي أسعار الجازولين والاسبير انها تعطيك في الحصاد ايضا جوالا واحدا فقط لا غير! تترك لك فقط عزاء أنك على الاقل لم تخسر حق التقاوي.
اكتشفت انه لم يكن يثق في نزاهتي، او سوء حظه، فقد نظر لي فجأة شذرا او شدرا كما كان يقول، وقال لي:
(قاعد تكتب حقك، ولا الماسك في ايدو القلم ما بيكتب نفسه شقي)!
كان هو من حاول قبل سنوات أن يمسك بالقلم حتى لا يكتب نفسه شقيا، كأنه كان يتنبأ بالكارثة الوشيكة حين انضم أيام الديمقراطية الأخيرة بحماس الى الحزب الوليد الطامح: الجبهة القومية الاسلامية، قلت له الوداك على الكيزان ديل شنو؟ قال لي: قروش زي الرز، نظر بعيدا وحدج العالم الخامد في حمى القيظ بنظرة احتقار، أتبعها ببصقة طويلة قبل أن يعلن نبوءته الانقلابية، (لم يكن صادقا طوال حياته مثلما كان في تلك اللحظة) : الجماعة ديل حيحكموا البلد دي!!
كان مبهورا بالأعداد الكبيرة التي كانت تؤم لياليهم السياسية، رغم أنه مُنع من الامساك بالمايكرفون، حين تولى يوما تقديم أحد المتحدثين، وقبل أن ينهي خطبته المرتجلة، شن فجأة هجوما لاذعا على الخمر ومن يتعاطونه من العطالى كما وصفهم، قاطعه أحد الخبثاء المحسوبين على حزب مناوئ بسؤال:
(البسب الدين نعمل ليه شنو؟)
قال دون تردد وبحماسة جهادية: (نطلّع ليه دينه!)
فيما بعد، وحين لم يجد (فرقة) معاهم بعد ان استولوا على السلطة، أعلن انسلاخه من حزب المؤتمر الوطني، وأنه لا يتشرف بموالاة مجموعة من الحرامية! كان رد فعل قط غاضب لم يجد نصيبا من اللبن. لم يكن بحاجة لإعلان استقالته تلك، فالحقيقة أن أحدا لم يتذكره في فوضى التمكين.
أثناء النهار، تحت أشجار النيم، كان يخلو أحيانا لشياطينه السعيدة، يتحدث معهم بود حول اشياء لا رابط بينها، يغني لهم أغنية لا ادري ان كانت موجودة أم (يقطعها) من رأسه: من زمان كايسك أنا أديني منك إحتنا ! ربما يقصد اعتناء لكنه ينطق العين حاء، في غمرة محبته الشيطانية.
وفجاة ودون مقدمات ينقلب الود الى شجار وعراك، تتطاير فيه الاحذية وفروع الاشجار قبل ان يهمد فجأة الى الصمت، يضع سفة سعوط من الحجم العائلي، ثم يسرح في المدى، قال له أحد اخوتي: انت البيجيبك هنا تعمل لينا زحمة في الفاضي شنو؟
نظر لي باحتقار ودود، وشكر، ثم عبّر عن تقديره لي بإشارة من يده، وبصقة طويلة ثم تبجّح قائلا:
لو ما العِلق دة البيجيبنا هنا شنو!
تدهورت أحواله، يغرق في الشراب، حين يأتي موسم الشتاء يؤجل زراعة الموسم بخطط بديلة لم ينفذها قط: سأسافر العمرة، اريد العودة لعملي كسائق سأسافر للقضارف لاستئجار مشروع زراعة مطرية.
استعدت أنا المبادرة، ذّكرته حين كان يحاول أن يعظنا أيام انتمائه للجبهة قبل سنوات، قلت له حان الوقت لأعظك أنا، كنت نصف جاد، نظر لي شذرا بمرح، يبدو أنه استعاد شائعة أنني (علماني) فكّر قليلا ، وضع سفة سعوط وبصق بحسم قبل أن يعلن: بالله انا عِدمت الدين عشان انت كمان توعظني!
المصدر: صحيفة الراكوبة