حول (ثروة) البرهان المليارية السودانية , اخبار السودان
حول (ثروة) البرهان المليارية
فتحي الضَّو
سألني أصدقاء وزملاء وقراء كُثر عن فحوى ما ذكرناه في سياق مقالنا الأخير، وكان حول (ثروة) الجنرال البرهان المليارية. ونعيد تأكيد ما أزحنا عنه النقاب بتفاصيل لعلها تروي ظمأ المتعطشين. وفي واقع الأمر ليس في الأمر عجب. ذلك ما دأبنا عليه على مدى أكثر من أربعة عقود زمنية، بلغت فيها العلاقة درجة من المصداقية والسمو لو أنني قلت لسائلي إن القيامة آتية غداً لما كذبَّني أحد. وذلك نسبة للثقة التي نمت بيننا رغم اختلاف الأنظمة التي جثمت على صدورنا بهويات مختلفة. ومع ذلك أرجعت البصر كرتين مع مصادري، رغبةً فيما يزيل الغشاوة من عيون البعض، وطمعاً في بث الرعب في صدور آخرين. وكالعهد بهم أعطوا وما بخلوا وأفصحوا وما وجلوا، فكان المنطق عندئذٍ بالمرئيات التالية التي تسلط الضوء أكثر على (ثروة) الجنرال!
أولاً: قالت المصادر إن (ثروة) البرهان ليست أموالاً سائلة ولا أرقاماً جامدة، كأنها موضوعة في زكائب بحيث يمكن عدّها دولاراً دولاراً. ونعلم سواء كان هو أو غيره من أصحاب الثروات الفلكية المشبوهة تكون تلك الأرقام على وجه التقريب، أي قد تزيد وقد تنقص. جزء منها يلبس طاقية الإخفاء حتى يصعب الحصول عليه، وجزء آخر لا يحتاج لجهد فتكاد تراه العين المجردة. فالذين تتلوث أيديهم بالمال العام يجتهدون في إخفاء آثاره. فالمختلس لا يترك أثراً يقود لمخبئه، تماماً كما هو حال الجنرال. وكما علمنا أن جزءاً معتبراً لمثل هذا المال هو عبارة عن علاقات مالية مع مفسدين آخرين، واستثمارات متعددة منها ما هو تحت الأرض، ومنها ما هو وراء البحار وفوقها. هي بأسماء وشراكات مع جهات بعضها معلوم وبعضها مجهول. وإن شئت نموذجاً جامعاً لكل هذه المتناقضات، لا يُنبئك مثل خبير شقيقه المحامي حسن البرهان، وآخرون لا يخافون يوماً كان شره مستطيراً. فكيف ولغ المذكور في المال الحرام؟
أولاً: دعونا نسبح في المياه الهادئة، إذ تقول السيرة الذاتية إنه في العام 2001م نقل العميد عبد الفتاح البرهان لدارفور، تزامناً مع ما ابتدعه نظام الإسلامويين بتكوين مليشيا عُرفت باسم (حرس الحدود) قوامها، ما يطلق عليها القبائل العربية أو عرب دارفور، وهي أيضاً المليشيا التي سُميت (الجنجويد) وأصبحت فيما بعد نواة لقوات الدعم السريع. وقد وُضعت تلك المليشيا تحت إشراف اللواء عوض أبنعوف مدير هيئة الاستخبارات والأمن. ونظراً لعلاقة شخصية ربطته مع البرهان، أصبح الأخير مشرفاً عليها. ثمَّ صارت العلاقة ثلاثية بانضمام محمد حمدان دقلو. وعندئذ بدأت رحلة البرهان المليونية الأولى مع الفساد، حيث جمع رصيداً وفيراً من المال بعد انخراطه في تجارة الحدود وخاصة الذهب من جبل عامر، ثمَّ طفق يلهف بشراهة إلى أن نُقل من دارفور في العام 2009م
ثالثاً: بعد نقله من دارفور إلى الخرطوم عُين في منصب المفتش العام للجيش، بينما مضى محمد حمدان دقلو في مشروع حرب اليمن (عاصفة الحزم) التي ليس للسودان فيها ناقة ولا جمل، ولكن للجنرالين فيها منافع كُثر. ونظراً للعلاقة التي توطدت من قبل عندما ترافقا في دارفور، نشأت بينهما صداقة قوية. فأوكل للبرهان حينذاك مهمة إعداد وتفويج القوات السودانية إلى اليمن للمشاركة في الحرب، وبذلك أصبح الطريق ممهداً وسالكاً نحو قصور آل نهيان وآل سعود فانفتح الباب الثاني على مصرعيه لهما ليحصدا أموالاً طائلة، من خزائن البلد الذي ينعته البرهان وصحبه (بدويلة الشر). ربما لم يلحظ كثيرون أن محمد حمدان دقلو يبهم في القول عندما يتعلق الأمر بالبرهان وسيرته، كأنما في فمه ماء. في حين أن ذلك يرجع إلى أنهما شريكان في عطايا انهمرت عليهما لسنين عدداً. ويبقى السؤال الذي يثور عندئذٍ: هل سمع الناس بالجنرال عبد الفتاح البرهان يتناول سيرة حكام (دويلة الشر) سراً أو جهراً كما ظلَّ يفعل رفيقه في السوءات ياسر العطا، بل حتى هذا الذي نطق بها (كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد) كان بعد شهور عديدة وصل فيها (الدم للركب) كما يقولون.
رابعاً: عندما توطدت العلاقة بين دقلو والبرهان ظهر في سهول دارفور وجه جديد اسمه آري بن مينياش، وهو إسرائيلي من أصول إيرانية، عمل في الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) قسم العلاقات الخارجية بوزارة الدفاع، وأسس عام 1999م شركة ديكينز وماديسون لجمع المعلومات الاستخبارية وخدمات الضغط Lobbing وتسهيل تجارة الأسلحة ومقرها في مونتريال بكندا، وكان قد بدأ التردد على دارفور بالتسلل عبر تشاد في بواكير المشكلة، وقد أتاح له تجواله التعرف على دقلو عندما كان في حرس الحدود، وبدوره عرَّفه على البرهان نظراً لتلك العلاقة التي ذكرنا. وبذا انفتح باب ثالث للبرهان ليواصل هوايته (جاء ذلك بتفاصيل دقيقة أوردناها في موثق آخر: أنظر كتابنا الموسوم: الطوطم صعود وسقوط دولة الإسلامويين في السودان ص 39) والذي صدر قبل الحرب ببضعة أشهر. ستقودنا تلك التفاصيل إلى دور آري بن مينياش في الوصول بالجنرال البرهان إلى عنتيبي للقاء نتنياهو، تلك الزيارة التي أثارت غباراً كثيفاً ولم يجرؤ أحد على فتح ملفاتها الغامضة حتى اليوم. كذلك لعل الأخطر ما فيها دور بن مينياش في انقلاب البرهان على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021م والذي أدى إلى كارثة الحرب التي نعيش ويلاتها الآن، لكي يُصبح النهب ممنهجاً.
خامساً. صوَّب الجنرال البرهان عينَّي صقر نحو الدجاجة التي تبيض ذهباً، ونعني هيئة التصنيع الحربي التي وضعها تحت إبطه منذ أن نصَّبوه في رئاسة اللجنة الأمنية الثانية ورئيس مجلس السيادة في مايو 2019م والذي استمر في هذا المنصب بلا شرعية حتى اليوم. وطيلة تلك الفترة لم تغفل عيناه عن الهيئة وربما حتى في المنام. لهذا وضَع على رئاستها كاتم أسراره وشريكه الوثيق الفريق ميرغني إدريس سليمان، والذي يعد من كبار الفاسدين المفسدين. وهذه ليست وجهة نظرنا فحسب، وإنما تمَّ تدويلها حيث قضت وزارة الخزانة الأمريكية بتجميد أمواله التي ظنَّ أنها لن تبيد أبداً. والحقيقة تلك أموال الجنرال البرهان. وكأنه يتمثل قول القدال طيب الله ثراه (النعمة بتعرف عاطيها والجمرة بتحرق واطيها) وإن كانت تلك نقمة وليست نعمة. والجدير بالذكر أن وزارة الخزانة الأمريكية فرضت حظراً على الجنرال البرهان نفسه بالأمر التنفيذي رقم 14098. فهل يمكن أن تضع وزارة الخزانة سمعة بلد يعد الأول في العالم على المحك إن كان البرهان وتابعه أبرياء من الذنوب.؟ بل هل كانت الحكومة الأمريكية ستجتهد كل تلك الاجتهادات لتضعهما في القائمة إذا ما كانت تلك الأموال عبارة عن ملاليم وليست ملايين؟
سادساً: دائرة فساد البرهان لم تتوقف على المذكور فما يزال هناك متسع للمؤلفة قلوبهم. فثمة وجوه موروثة من إمبراطورية الفريق عبد الرحيم محمد حسين أو فرعون الفساد الأكبر، الذي ظل يحصد في الأموال بقدر سنوات العصبة ذوي البأس في السلطة. وتلك حقبة ضمت للبرهان الفريق طه عثمان الحسين الضلع الخفي في صفقة عاصمة الحزم وما يزال يرتع في عطايا الملوك والشيوخ والأمراء، علاوة على الجنرال والتابعين في مؤسسة الفساد، وتتسع الدائرة لتشمل آخرين خمسة نجوم، ظلوا متحولقين حوله كما السوار حول المعصم. ومن هؤلاء نائب رئيس هيئة التصنيع الحربي الجيلي تاج الدين أبو شامة والمستشار د. طه حسين بالإضافة لضباط كبار يشغلون مناصب مديري مكاتب القياديين المقربين للحركة الإسلاموية، هذا غير سماسرة الكواليس الذين يقدمون خدماتهم من وراء ستار بينما ألسنتهم تلهج بذكر الله في الهيئة التي أصبحت عبارة عن ماخور كبير تُمارس فيه كل الرذائل.
سابعاً: ظهر لاعب جديد وإن كان من المحترفين أصلاً، ولكن لم يكن اكتشافه ميسوراً لولا ظهوره الفجائي في قوائم الحظر الأمريكية. وقد اتضح أنه الشريك الخفي للبرهان وزمرته. ذلك هو المدعو أحمد عبد الله الأوكراني من أصول سودانية، لم يكن معروفاً إلا للجنرال ورهطه، فهو طبقاً لنص قرار وزارة الخزانة يُعد العقل المدبر Mastermind لهذه العصابة بريادة البرهان. وكشف القرار على أن لديه شركة باسمه (بورتكس) في هونج كونج متورطة في شراء مسيرات وطائرات إيرانية بدون طيار من شركة دفاع أذربيجانية لصالح منظومة الصناعات الدفاعية، والتي فرضت عليها وزارة الخزانة عقوبات في يونيو 2023م وانشطتها التسليحية. ولقد جمعت النقيضين المتحاربين روسيا وأوكرانيا وثالثهما البرهان وأزلامه في صفقات خرافية. وأحمد عبد الله هذا متعدد الصلات والعلاقات شرقاً وغرباً، ما ظهر منها وما بطن. امتدت أنشطته لتشمل دولاً أخرى في جنوب شرق آسيا. كانت واشنطن قد فرضت عليه عقوبات في شهر اكتوبر الماضي، بالأمر التنفيذي نفسه وباعتباره السمسار الأكبر لجيش البرهان والبرهان نفسه. وهو مسؤول عن كل صفقات الأسلحة التي زود بها الجيش طيلة فترة الحرب، بجانب أن لديه استثمارات في أنشطة اقتصادية متعددة. وهو الوحيد الذي أصبح الاتصال بينه والبرهان مباشراً لا يحتاج لتشفير كلمة السر.
واخيراً وليس بآخر، قبل فترة قصيرة تداول الناس قصة قصر البرهان الذي أشتراه في تركيا بمبلغ ثلاثة ملايين دولار، وذلك ما حرضني على القيام برحلة استقصاء سألنا فيها السيد عادل إبراهيم الذي كان سفيراً للسودان في ذاك البلد إبان حدوث الرواية، أي قبل أن يحال للمعاش في صحبة سفراء أماجد وقفوا موقفاً وطنياً ضد انقلاب أكتوبر 2021م فأكدها السفير بما يعلم وعضدها بما يزيد. والحقيقة ثلاثمائة مليون ليست كثيرة على من سرق سلطة وزادها بسرقة وطن. لو أن عموم السودانيين علموا بحجم المال المنهوب من منظومة الصناعات الدفاعية ورعاتها، لأقاموا سرادق العزاء على هذا الوطن المنكوب. فكما قال محمود درويش: لا أعلم من باع الوطن، ولكني رأيت من دفع الثمن.
لكل هذا فإن ثروة البرهان المليارية ستظل مصدر استقصاء وتساؤل حتى يقف بين يدي من لا يُظلم عنده أحد وإن تطاول الزمن.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
المصدر: صحيفة التغيير