حول الهوس والجيش والدعم السريع: تعليق على مقال د.الواثق كمير الأخير
السفير د.حيدر بدوي صادق
هذا التعليق ليس رداً تفصيلياً على مقال د.الواثق كمير الأخير الموسوم بعنوان “الجيش الواحد: كيف يتشكل؟” بل هو مجرد تعليق أُلهمت فكرته ببعض ما ذُكر في المقال. (أرجو أن يحصل من يرغب على مقال دكتور الواثق، فهو مبذول في الأسافير.)
يقرر د.الواثق أن مجموعة قحت المركزي ليس لديها سلاح، وهي بالتالي لم تتسبب في الحرب. وهذه نصف حقيقة! والصحيح أن نقول أن قحت المركزي لم تتسبب في الحرب “بشكل مباشر،” إلا أنها تتحمل مسؤولية كبيرة في ما آل إليه الحال في البلاد اليوم. ذلك لأن قحت الكبرى الأم ظلت تتقزم، يوماً بعد يوم، وظلت تنقض قيم ثورتنا العظيمة عروة عروة. وظلت، بسبب كل ذلك، تتفتت حتى تقلصت إلى جسم واهن هو قحت المركزي. وأول انحراف لقحت الأم عن قيم الثورة كان القبول بالمكاففة لبعض أخطر السفاحين في التاريخ المعاصر لبلدنا الجريح. هؤلاء سفكوا دماء أهلنا في الجنوب، حتى انفصل، وفي دارفور وفي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ثم في القيادة العامة، وغير ذلك! وقبول قوى الحرية والتغيير الأم الرؤوم لقحت المركزي بالجلوس مع أولئك السفاحين كان أول علامات الفشل الأخلاقي. وربما لا أحتاج هنا للتذكير بأطروحة الدكتور منصور خالد المفكر السياسي العظيم عن إدمان النخب السودانية للفشل! وقد كان فشل قحت في الحكم امتداداً لحالة الفشل التي ظلت تلازمنا منذ الاستقلال.
وتناول مقال د.الواثق فكرة الجيش الموحد. وفي تقديري أن المقال أهمل النظر في تكوين الجيش بشكله الراهن، حيث لم يتطرق إلى أن قيادة الجيش حالياً حامية لمشروع الهوس الديني. ولم يركز على أن الجيش فى الوقت الراهن مليشيا للهوس الديني، درى بذلك منتسبوه أم لم يدروا! ذلك لأن معظم ضباطه مهووسين، دخلوا الجيش بسبب ولائهم، لا بسبب ذكائهم وقدراتهم. ولا يطعن في هذا الطرح كون معظم الجنود ليسوا مؤدلجين. فكون أن هؤلاء سمحوا بأن يقودهم ضباط مهووسين، غير أكفاء، فهذا يعني أن بوصلتهم الأخلاقية انحرفت ومالت تجاه المهووسين. هذا، إضافة لكون أن نسبة مقدرة من الجنود من المهوسين أصلاً! وقد يحتج من يحتج بحجة التراتبية العسكرية، وأن الجندي يجب أن يطيع الضابط بغض الطرف عن الايديولوجية التي ينتمي إليها الأخير. وهذه حجة داحضة. فقد شهدنا في أكثر من دولة أفريقية شقيقة معصية الجنود للضباط، لحد القيام بانقلابات عليهم. وكما هو معلوم، هناك في العسكرية مبدأ يسند هذا الفهم. وقد مارس هذا المبدأ الضابط الشجاع حامد الجامد، الذي صمتت قحت حين فصل من الجيش تعسفياً، وهو المساند لقيم الثورة السامية. وهكذا كان حامد الجامد في صف الثورة، ورضيت قحت بأن تجلس مع ضباط معظمهم مهووسين، نقضوا قيم الثورة عروة عروة! لا أظن أنني أحتاج لمزيد من التفصيل في شأن أن الجيش عبارة عن مليشيا للهوس الديني، وأن قحت خانت الثورة حين تحالفت مع هذه المليشيا.
وهنا كلمة عن قوات الدعم السريع. هذا الكيان المليشيوي نتاج مباشر من نتائج مشروع الهوس الديني. وهذا لا يحتاج مني إلى تدليل مفصل. ولكن لا مانع هنا من بعض التدليل. فلولا الهوس الديني لما تطورت الحروب في دارفور للمدي البشع الذي بلغته. ويجب ألا ننسى فترة حكم الطيب سيخة في دارفور. وكثيرون منا يعرفون أن يحي بولاد رفيق سيخة في مشروع الهوس سابقاً كون قوة في دارفور تابعة للحركة الشعبية لتحرير السودان. وقيل أن سيخة قتل بولاد بدم بارد وهو في الأَسْر! وكان سيخة في ذلك الوقت يمثل الهوس الديني في أسوأ صوره، لدرجة الجنون! وقيل أن سيخة قتل بولاد بنفسه، ثم بكى بعد أن قتله بسبب تذكره لتلاوة بولاد المتقنة للقرآن أيام كانوا في جامعة الخرطوم. فهل هناك جنون أكبر من ذلك؟ وكثيرون منا يعرفون أن يحي بولاد كان رئيساً لاتحاد طلبة جامعة الخرطوم عن الاتجاه الإسلامي، في إحدى دوراته. وقتل سيخة لبولاد كان علامة فارقة في تصاعد مشروع الهوس لمستويات ممعنة في الشر، بخاصة في دارفور. وتداعت الأوضاع هناك منذ تلك اللحظة حتى خلا مشروع الهوس من أي لمسة دين، فأصبح هوساً صرفاً بالسلطة والثروة. وأمعن هذا المشروع الشرير في تقتيل أهل دارفور، المسلمين محبي القرآن، والنبي، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كأنهم كفار قريش. بل كان الجيش، في حربه اللعينة على شعبه في دارفور، أسوأ بكثير من كفار قريش! ذلك لأن أؤلئك كانوا أرأف بالمدنيين، في المدينة المنورة، من الجيش السوداني المهووس. إذ لم يقاتل كفار قريش في قلب المدينة، ولم يحرقوا القرى، ولم يقتلوا النساء والأطفال والرضع وكبار السن دون تمييز! وكل هذا، بل أكثر، فعله الجيش وربيبه الدعم السريع.
في هذا الواقع الشرير، المظلم، نشأت قوات الدعم السريع كنتيجة حتمية لتجرد مشروع الهوس تماماً من أي قيمة سامية، دينيةإنسانية! وذلك بعد أن وضح بجلاء أن مشروع الهوس مجرد مشروع دنيوي، هدفه الاستمتاع بلذة السلطة ولجني ثمار الثروة!
وكان دعم الجنجويد لكي يحاربوا بالوكالة عن الجيش نتيجة طبيعية لفشل الأخير في دحر الحركات المسلحة التي ابتدر تأسيسها يحيي بولاد! وفي حقيقة الأمر، لم يلجأ نظام الهوس الذي أصبح همه الدنيا، لا الدين للجنجويد إلا بعد أن هُزِم هزائم متتالية من قبل الحركات المسلحة. إذن، نستطيع أن نقول أنه بحلول الهوس بالدنيا محل الهوس بالدين، اكتملت دائرة الشر في المؤتمر الوطني، فلجأ لقوة قبلية، عنصرية، مهووسة بالدنيا، قوة دموية، ماحقة، ساحقة، حارقة، مدمرة، هي الجنجويد. وهذه القوة المهووسة شكلت قوام قوات الدعم السريع، التي أصبحت ظهيراً للقوات المسلحة! وحلت، عملياً، محل سلاح المشاة، الذي تهلهل في عهد البشير، وتحطم تماماً في عهد البرهان! والعسكريون، المجودون لعلوم مهنتهم، يعرفون معنى ألا يكون للجيش سلاح مشاة، ويدركون خطورة أن تحل مليشيا محله. والكل يعرف أن السفاح البشير وصف قائد قوات الدعم السريع سلاح مشاته الفعلي بوصف “حمايتي!” وأي عسكري حاذق يدرك خطورة أن يكون سلاح المشاة الفعلي الدعم السريع خارج سلطة الجيش، وتحت إمرة رجل بسيط، شبه أمي (حصل بقدرة قادر على رتبة فريق ركن، دون أن يمر ينال أي تعليم عسكري)!
وبالفعل شكل حميدتي حماية للبشير من الجيش. واستمر البرهان ينسج على نفس منوال البشير حيث “دعم” الدعم السريع، دعماً سخياً، لكي يشكل له كذلك حماية من الجيش! وبسبب دعم البرهان للدعم السريع تضاعفت قوة الأخير من بضعة الآف إلى أكثر من مائة ألف ضابط وجندي. ومعظم هؤلاء غير مؤهلين، لا علمياً ولا فنياً، ولا أخلاقياً!! وبقية قصة تناسل قوى الشر معروفة حيث تولًّد من هذه القوى من يمارسون التدمير والتقتيل الذي يحدث اليوم في الخرطوم!
على الرغم من كل ماسبق، فإني قد أرى وجاهة في الرأي القائل بدمج شرفاء الجيش مع شرفاء القوات المسلحة. هذا إن كان هناك شرفاء في كليهما! ولا أظن أن هناك شرفاء هنا أو هناك! وليس كل الظن إثم! أما الحل الأفضل الذي أراه، فهو ألا يكون لدينا جيش على الإطلاق على غرار كوستريكا، أو جيش محدود على غرار اليابان. وهذه قصة أخرى تصلح لمقال مفصل!
٥ يونيو ٢٠٢٣
لوس آنجلوس، كاليفورنيا
المصدر: صحيفة التغيير